سحابات دخانية بدأت تغطي السماء في هذا اليوم الخريفي. شارختار تحترق.
سكان هذه القرية المتاخمة لناغورني قره باغ فضّلوا حرق بيوتهم على أن يتركوها مستباحة أمام القوات الأذربيجانية التي ستصل بعد ساعات.
"إنه اليوم الأخير لنا هنا، غدا سيأتي الجنود الأذربيجانيون". يكاد الصوت يختنق في حنجرة الرجل بينما يلف كنزة عتيقة مبللة بالوقود في مقدمة عصا، يشعل النار فيها ويرميها باتجاه منزله. وها هو يقف محدّقاً في البيت يحترق.
في البداية، سرت ألسنة النيران بطيئة في سقف الصفيح. لكن لكي يكون متيقناً من أنّ لا شيء سيبقى سوى الأنقاض، يلقي الرجل البائس ألواحاً وأغراضاً تحترق من النوافذ.
وقال: "إنّه منزلي، لا يمكنني تركه للأتراك"، وهي التسمية التي غالباً ما يلقيها الأرمن على الأذربيجانيين.
أفرغ الرجل منزله كلّه، لم يترك فيه سوى طاولة بلاستيكية وقد بدأت النيران تذيبها.
"الجميع يحرقون منازلهم اليوم أمهلونا حتى منتصف الليل للرحيل"، قال الرجل قبل صعوده في سيارة رباعية الدفع لينطلق دون إلقاء أي نظرة إلى الخلف، ومردداً: "كلّهم خونة".
في بداية الأسبوع الحالي، جرى التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان برعاية روسية، ينهي آخر فصول هذا النزاع المديد. ويكرّس الاتفاق المكاسب التي حققتها القوات الأذربيجانية على الأرض وينص على التخلي عن مناطق إضافية لصالح باكو.

A burning house left by residents in the village of Chorekdar, November 14, 2020. Source: Sipa USA Stanislav Krasilnikov/TASS/Sipa
وتقع هذه القرية عند مشارف منطقة كالباجار، وهي عبارة عن واد يعبره نهر تاتار، أسفل مرتفعات جبلية ومنحدرات.
تعدّ شارختار واحدة من أبرز المواقع المأهولة في المنطقة، وبلا شك فإنّ أكثر من نصف منازل القرية التي تعود في غالبيتها لفلاحين، جرى إحراقها في الساعات ال24 الأخيرة على يد مالكيها.
كان المشهد نفسه يتكرر: رجال يرتدون ملابس عسكرية عائدين من الجبهات، يملأون سياراتهم العتيقة بما أمكنهم قبل إشعال النيران.
أما لمن لم يجدوا سيارة تحمل أغراضهم، على غرار سركيس الأربعيني، فقد يحرقون "كل شيء" كما سيفعل هو. ويضيف "سبق أن أشعلت النار بقفائر النحل، لم يعد لدي متسع من الوقت".
متى وكيف ستصل القوات الأذربيجانية؟ لا أحد يعرف. إلا أنّ السلطات المحلية في ناغورني قره باغ أكدت للسكان أنّ طريق كالباجار تمثّل حالياً المسلك الوحيد نحو أرمينيا، وأنّها ستبقى تحت سيطرتها. وقد بدأ جنود روس يجوبونها.
يعتقد سركيس أنّ "الأذريين سيصلون (إلى كالباجار) بطوافاتهم".
على ذاك الطريق، تدور أحداث هجرة عظمى، حيث تزدحم بالسيارات المتجهة نحو مدينة فاردنيس الأرمينية الحدودية، عابرة ممر سوديتس على علو 2700 متر. ويبدو أنّ كل ما يمكن حمله من كالباجار، هو في صدد النقل.

Armenian people attend a candlelight tributes to soldier at the Freedom Square in Yerevan, Armenia, 14 November 2020. Source: PHOTOLURE
وكانت شاحنات تحمّل محوّلات المحطات الكهرومائية الضخمة، فيما آخرون يقصون أشجارا ويقطعونها لنقلها إلى أرمينيا حيث يمكن بيعها بأسعار جيدة. وكان رعاة أيضاً يسيّرون بخطى سريعة قطعان أغنام وأبقار.
أما قاعدة كالباجار العسكرية فبدت مشرّعة، وكان الجنود يزيلون صفائح المرائب ويجمعون صناديق الذخائر وكل ما يمكن أخذه.
كانت أوراق تحترق في باحة الثكنة. وكان ثمة ورقة معلّقة تنبّه باللغة الأرمينية "خطر ألغام!". وعلى الجدار، رسِم رأس خنزير وكتبت كلمتان باللون الأصفر وبأحرف واضحة للوافدين بعد قليل: "اللعنة على الأذريين!".