في البداية، أود ان أقدم احترامي لشعب السكان الأصليين، للأرض التي أعمل عليها، وأن أشير للملاك التقليديين وحكمائهم في الماضي والحاضر والمستقبل.
في 26 أيار/مايو من كل عام، تتذكر أستراليا يوم الاعتذار الوطني المخصص للاعتراف بالممارسات السيئة في التعامل مع السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس الذين تم إبعادهم قسراً عن عائلاتهم ومجتمعاتهم فيما مضى، في ما بات يعرف باسم "الأجيال المسروقة".
ورث الأستراليون ميراثا معقدا من العنصرية والإساءة التي عانت منها مجتمعات السكان الأصليين بصورة ممنهجة مع محاولة طمس الهوية الثقافية واللغوية لأقدم الحضارات الإنسانية على مر التاريخ.
ما زال هذا موضوعاً يحمل في طياته حساسية لدة المجتمع الأسترالي، لا سميا وأن بعض ضحايا تلك الممارسات ما زالوا على قيد الحياة بعدما عانوا بشدة من مرارة الاختطاف والعنصرية.

Source: AAP
في السطور القليلة القادمة نحاول إلقاء الضوء على تاريخ هذا اليوم ولماذا يتم تذكره.
يوم صعب
وفقاً لمؤسسة المصالحة الأسترالية Reconciliation Australia، فإن يوم الاعتذار الوطني هو يوم يتم فيه الاعتراف بقوة الناجين من الأجيال المسروقة والتفكير في كيفية مساهمتنا جميعاً في عملية التعافي لأبناء مجتمعات السكان الأصليين.
وفي حين أن هذا التاريخ يحمل أهمية كبرى للأجيال المسروقة وغيرهم من السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس، إلا أن كافة الأستراليين يتذكرون هذا اليوم في جميع أنحاء البلاد.

اسبوع المصالحة الوطنية Source: Reconcilliation Austrlia/Instagram
كيف وصلنا إلى هذا اليوم؟
في عام 1909، أقر قانون حماية السكان الأصليين عقوبة جنائية لمن يقوم باقتلاع أطفال السكان الأصليين من أسرهم في نيو ساوث ويلز.
ثم تبنت جميع الولايات الأسترالية سياسات "استيعاب" أطفال السكان الأصليين من أصول مختلطة في عام 1937.

قانون حماية السكان الأصليين لعام 1909 Source: NSW legislation
خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تم أخذ أعداد كبيرة من أطفال السكان الأصليين من أسرهم تحت مسمى سياسات "الاستيعاب"، وأصبح أولئك الأطفال يعرفون باسم "الجيل المسروق".
استمرت تلك السياسة حتى فترة السبعينيات، مع استمرار إبعاد أطفال السكان الأصليين عن أسرهم، فيما بدأت مجموعات السكان الأصليين في تلقي التمويل والتبرعات من العديد من المنظمات الحقوقية والأهلية لمواجهة هذه السياسات المجحفة.

SBS Source: SBS
استلزم الأمر نحو 27 عاما من النضال، وصولاً إلى يوم 26 أيار/مايو 1997، حين عُرض التقرير الشهير "أعيدوهم إلى أهلهم" في البرلمان الفيدرالي. واستعرض التقرير التاريخ المؤلم للأجيال المسروقة، واقترح 54 توصية للمستقبل، بما في ذلك إقامة يوم اعتذار وطني كل عام.
في العام التالي، وتحديداً في 26 أيار/مايو 1998، تم الاحتفال بأول يوم اعتذار رسمي للإقرار بتأثير سياسات الإبعاد القسري على السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس.

The Bringing Them Home report (1997). Source: Victorian Collections
في الذكرى الثانية، وتحديداً 28 أيار/مايو 2000، تم تنظيم مسيرة Corroboree 2000 Bridge عبر جسر ميناء سيدني التي أدت لإغلاق حركة المرور وتصدرت عناوين الصحف الوطنية، حيث سار مئات الآلاف من الأشخاص لدعم الأستراليين من السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس.
خلال كل تلك الأحداث، كان هنالك شد وجذب داخل الحكومات الأسترالية المتعاقبة، إلى أن جاء يوم 13 شباط/فبراير 2008 حين تقدم رئيس الوزراء كيفين راد بالاعتذار الشهير للسكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس داخل مبنى البرلمان، عن السياسات التي "تسببت في حزن عميق ومعاناة وخسارة لهؤلاء الأستراليين".

مسيرة يوم الاعتذار الوطني في عام 2000 Source: Reconcilliation Austrlia/Instagram
"لم أعرف من أنا": حكايات الجيل المسروق
عندما يقرأ البعض تلك الأحداث، قد يظن أنها من صفحات الماضي، ولكن عندما تتأمل قصة المغني الأبوريجيني الشهير كوتشا إدواردز، يتضح لك أنها لا تزال حاضرة في الذاكرة الحية.
تحدثت أس بي أس عربي24 مع إدواردز حول هذا اليوم ومعناه كونه أحد ضحايا "الجيل المسروق" من الذين عانوا من اضطراب الهوية والعنصرية بسبب تلك الممارسات.
يقول إدواردز "لكي نفهم الأمر، تم انتزاعي عنوة من أحضان أسرتي الأصلية وأنا بعمر 18 شهراً وإيداعي أحد الملاجئ لرعاية الأطفال بضواحي ملبورن الشرقية".

المغني الشهير كونشا إدواردز Source: Supplied.
يتذكر إدواردز أنه عندما كان صبياً لم يدرك ما الذي يحدث ولم يعرف فداحة الأمر إلا لاحقاً. أما في سنواته الأولى فكان يهتم فقط باللعب مثل بقية أقرانه.
يقول إدواردز، "عندما كنت طفلاً، لم أكن أعرف أي شيء، لم أفهم في السياسة ولم أدرك ماذا يحدث. اهتماماتي كانت مثل أي طفل آخر في هذا العمر، كنت واحداً من 6 أطفال تم اختطافهم من عائلتي وأجبرت على الإقامة في ذلك الملجأ".
يؤكد إدواردز تعاطفه الكبير مع قضايا اللاجئين وطالبي اللجوء الذين أتوا إلى أستراليا بحثاً عن وطن جديد، كونه تم انتزاعه عنوة من أسرته وظل لفترة طويلة في غربة داخل وطنه.

صورة أرشيفية لأحد مراكز التأهيل لأطفال الجيل المسروق من مجتمعات السكان الأصليين في منتصف الأربعينيات Source: Supplied
" عندما تم اختطافي، لم أعرف ما هي لغتي أو ثقافتي أو معتقداتي وتقاليدي والروابط التي تربطني بهذه الأرض، تم اجباري وفقا لسياسات "الاستيعاب" في ذلك الوقت على تبني معتقدات ولغة الرجل الأبيض".
ظل إدواردز في الملجأ لمدة 11 عاماً، وفي سن التاسعة عشرة، تم إخباره عن أصوله وعن عائلته وثقافته.

Kutcha Edwards – Circling Time (Wantok Music) Source: Kutcha Edwards
يقول إدواردز، " للمرة الأولى أدركت من أنا، بدأت أفهم سر النظرات الغريبة لي وشعوري بالعنصرية والاختلاف. عرفت معنى مقولة الحكم على الكتاب من العنوان".
شدد إدواردز في حديثه على أن الحكومات الأسترالية المتعاقبة لم تطرح السؤال على شعب السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس حول ما اذا كانوا يرغبون حقا في الانضمام للمجتمع الأسترالي، موضحا أنه لم يتنازل عن سيادته على تلك الأرض.

Source: AAP
"موقفي واضح من تلك الحكومات التي فرضت على مجتمعاتنا أمراً واقعاً، لدي آرائي ولم أتنازل عن سيادة شعوبنا لتلك الأرض مهما طال الأمد".
وتستمر الرحلة...
اليوم، وبعد مرور 25 عاماً على تقرير "أعيدوهم إلى أهلهم"، و14 عاماً على الاعتذار الوطني، لا يزال احتمال إبعاد أطفال السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس أعلى بنحو 10.6 ضعف مقارنة بالأطفال من غير السكان الأصليين، وفقا لمؤسسة المصالحة الأسترالية.
في 26 أيار/مايو 2017، وفي ختام المؤتمر الدستوري الوطني للأمم الأولى لعام 2017 في منطقة أولورو الشهيرة، ألقت عضو المجلس ميغان ديفيس بيان أولورو من القلب، وهي وثيقة إجماع حول الاعتراف الدستوري تم إعدادها من قبل مجلس استفتاء مكون من 16 عضوًا من السكان الأصليين وقادة المجتمعات من غير السكان الأصليين.

Aboriginal woman Jordan O'Davis performs with the Buja Buja dance troupe during the Wugulora Indigenous Morning Ceremony as part of Australia Day celebrations Source: AAP Image/AP Photo/Rick Rycroft
على مدى ستة أشهر، سافر المجلس إلى 12 موقعًا مختلفًا في جميع أنحاء أستراليا والتقى بأكثر من 1,200 ممثل عن السكان الأصليين وسكان جزر مضيق توريس.
أسفرت تلك اللقاءات عن بيان مشترك حول الاعتراف الدستوري بوثيقة "أولورو من القلب".

Source: Facebook/The Uluru Statement from the Heart
هذه القيم حاضرة بقوة في كلمات "من القلب" عل موقع مؤسسة المصالحة الأسترالية: "لا يمكننا أن نبدأ في إصلاح مشاكل الحاضر دون قبول حقيقة تاريخنا. يوم الاعتذار الوطني يفرض علينا الاعتراف بالأجيال المسروقة، ومن خلال ذلك، نتذكر بأن الظلم التاريخي لا يزال مصدراً مستمراً للصدمات بين الأجيال لعائلات ومجتمعات وشعوب السكان الأصليين وسكان جزر توريس".
