قبل أن تشرق شمس اليوم في سيدني، جلست أماني كمال* أمام شاشة الكمبيوتر الخاص بها في انتظار مكالمة هاتفية، فالمهاجرة المصرية التي وصلت سيدني منذ أسابيع قادمة من القاهرة تمر بأزمة نفسية، وهي على موعد مع طبيب نفسي يتحدث إليها عبر الإنترنت من القاهرة ليسدي لها بعض النصائح.
التحول الحاد الذي يأتي مع الهجرة تسبب في أزمة أماني: "أول ما وصلت لأستراليا كانت تجربة مخيفة بالنسبة لي، لم أغادر مصر في السابق، وكنت أيضا أم جديدة، كان هناك العديد من العوامل الطارئة، فكنت بحاجة للمساعدة."
الأزمة النفسية التي مرت بها أماني ليست منفردة، بل أن هناك مئات الآلاف من الحالات المشابهة في أستراليا، تقول وزارة الصحة الأسترالية في بحث منشور على موقعها إن "ربع مليون من الأشخاص الذين يتحدثون لغة أخرى أو يأتون من هوية ثقافية مختلفة يعانون من أزمة نفسية خلال العام الأول من وصولهم لأستراليا، وأن عدداً كبيراً منهم يمتنعون عن الذهاب لمعالج نفسي بسبب عدم توافر المعلومات بلغتهم، أو بسبب الفروق الثقافية."
أماني هي واحدة من هؤلاء الآلاف الذين منعهم غموض نظام التأمين الصحي الأسترالي فيما يتعلق بالصحة النفسية من العثور على معالج نفسي.

Source: AAP
لكنه لم يكن السبب الوحيد أيضا، فاللغة لعبت دوراً: "عندما وصلت لأستراليا لم أعرف كيف يعمل نظام الصحة النفسية هنا من حيث التكاليف، لم أكن أعرف أين أبحث وأين أذهب. لم أكن متأكدة من استطاعتي شرح ما بداخلي، شرح إحساسي بسبب مشكلة اللغة."
ولهذه الأسباب لجأت أماني لطبيب عبر الإنترنت.
بعد عدة جلسات أنهت أماني التجربة مع الطبيب القاهري، فارق التوقيت بين سيدني والقاهرة دفعها للتوقف قائلة: "وجدت صعوبة كبيرة في تنسيق وقت مناسب لي و(للمعالج)، أحد الطرفين يجب أن يقدم تنازلات في الوقت، ولو كان (المعالج) أمامي كانت ستكون تجربة أحسن."
نقص الوعي الثقافي بالآخر

Source: AAP
أثناء جلسة علاجية سأل الطبيب النفسي المهاجرة المصرية نادية حسين* عن علاقتها مع زوجها وكيف تعرّفا على بعضهما البعض، صارحت نادية الطبيب بأن العلاقة لم تبدأ بإعجاب وحب كما هو معتاد في الغرب، وأن الزواج كان "زواج صالونات" كما يسمى في مصر، حين يقوم أحد الأصدقاء بتعريف الرجل و المرأة ببعض، وهو أمر شائع للغاية هناك، لكن نادية لم تتخيل أن هذه الجملة العابرة ستكون نقطة تحول في الجلسة، فيبدو أن المعالج اختلط عليه الأمر بين الزواج المدبر والزواج القسري الذي ترغم فيه إمرأة على الزواج دون رضاها.
الفارق الثقافي لعب دوراً في خلق سوء فهم بين نادية والمعالج، تقول نادية: "افترض المعالج أن زواجي وليس به حب، وشخّص حالتي بأنني أعاني من الاكتئاب بناء على أفكار هو اختلقها بسبب فرق الثقافة بيننا."
بالطبع، لم تعد نادية لرؤية ذلك المعالج النفسي.
أماني كان لها أيضاً نصيب من هذا المطب الثقافي، فخلال مشكلة بينها وبين زوجها نصحتها معالجة نفسية أسترالية بأن تتوقف تماما ولعدة أشهرعن القيام بالأعمال المنزلية، وتركها لزوجها، وهو طلب تصفه أماني بأنه مستحيل: "طلبت مني القيام بالنقيض تماما لعادتنا وتقاليدنا في مصر، لم نستطع التوصل لتفاهم لأنها كانت تحاول إقناعي بترك الأعمال المنزلية لزوجي، وكنت أحاول أن أشرح لها أن هذا مستحيل."
يؤكد د.سمير إبراهيم، استشاري الأمراض النفسية والحاصل على وسام الملكة في أٍستراليا، أن العلاج النفسي عن بعد هو حل يتم اللجوء إليه مع سكان المناطق النائية، لكن د.إبراهيم يصفه "بنصف العمى." ويصف نتائجه بأنها أقل بكثير بسبب رداءة الاتصال وبعد المسافة.
بالرغم من ذلك يشدد د.إبراهيم على أهمية أن يكون المعالج من نفس ثقافة المريض: "أنا متفق معاهم إن (المعالج) الأسترالي لن يفهمهم، وأن (المعالج) الهندي لن يفهم، البعض يعتقد إنه دَرَسَ وسيعرف كيف يتحدث في كل المواضيع، لكن هناك فرق بين إنه يكون عارف أو يكون عايش (نفس التجربة)"
يرى د.إبراهيم أن الطبيب النفسي المقيم في أستراليا أيضاً عنده دراية بالأوضاع المعيشية، الأمر الذي يقوده لتقييم الحالة بشكل أفضل: "لا يستطيع (الأطباء في البلاد العربية) تفهم أوضاع الناس ومشاكلهم في المهجر، بيتعاملوا معاهم على حسب ما يتخيلوا المشكلة. لكن هناك عدد غير قليل من الأطباء والمعالجين الذين يتكلمون العربية أو من أصول شرق أوسطية في أستراليا."
ولهذا ينصح د.إبراهيم بالتوجه لطبيب ممارس عام عربي لأنه سيوجه المريض لمعالج نفسي يعمل باللغة العربية.
لكن البحث على موقع الأطباء النفسيين الأسترالي، والذي يتيح البحث عن طبيب باختيار اللغة المفضلة، نتج عنه العثور على خمسة أطباء نفسيين فقط يستخدمون اللغة العربية في العلاج في سيدني، وطبيبيْن فقط في ملبورن، أما موقع المعالجين النفسيين الأسترالي فليس به خاصية البحث عن معالج نفسي باللغة.
على الصعيد الحكومي أعلنت وزارة الصحة في الآونة الأخيرة عن عدة مشاريع لتسهيل وصول خدمات الصحة النفسية للأشخاص الذين يتحدثون لغة أخرى غير الإنجليزية أو يأتون من هوية ثقافية مختلفة، لكن الأمر من وجهة نظر الحكومة ليس سهلاً.
ففي لقاء أجرته كريستين مورجان، مستشارة رئيس الوزراء لشؤون تجنب حالات الانتحار والمديرة التنفيذية للمفوضية الوطنية للصحة النفسية، مع أس بي أس قالت مورجان إن مشكلة عدم توافر خدمات نفسية لمن يتحدث لغة غير الإنجليزية هي: "(أمر) شديد التعقيد."
فمن وجهة نظر مورجان لن تحل المشكلة بوجود مترجم، بل يجب ترجمة مفاهيم ومصطلحات كاملة تشرح ثقافة المريض للمعالج النفسي، كما ترى مورجان أن هناك تصور خاطئ مفاده أن الأشخاص الذين يتحدثون لغة أخرى أو يأتون من هوية ثقافية مختلفة يتمكنون من استخدام خدمات العلاج النفسي في أستراليا، وهو تصور خاطئ من وجهة نظرها، فعلى خدمات العلاج النفسي أن تبدأ بالتواصل مع المهاجرين لشرح الخدمات لهم.
يمكن للقراء الذين يسعون للحصول على الدعم والمعلومات حول منع الانتحار الاتصال بـ Lifeline على رقم 131114 أو على الرقم 1300659467 وخط مساعدة الأطفال على 1800 55 1800 (حتى سن 25).
*تم تغيير اسم المشاركة بناء على طلبها وحفاظا على خصوصيتها.