بعد أن قضى عامين في استثمار أموال تقاعده مع أحد صناديق الادخار التقاعدي العامة في أستراليا، قرر محمد محمود، المهاجر المصري الذي قدم إلى أستراليا منذ نحو أربعة أعوام، سحب الأموال واستثمارها في صندوق يعمل طبقا للشريعة الإسلامية.
يحاول محمود البعد عن الاستثمار في مجالات يراها محرمة، فمهندس علوم الحاسب الذي يبلغ من العمر 35 عاماً ويعيش في سيدني، يود أن يضع استثماراته في مجال يراه مناسبا لأخلاقياته: "أنا كنت بدور على حاجة (صندوق تقاعد) إسلامية، لأني عارف إن معظم صناديق التقاعد هنا في البلد، بتستثمر في الـ Gambling أو البنوك أو الأسلحة ودي حاجات unethical، علشان كده كنت بدور على صندوق إسلامي."
منذ عام استقر محمود على صندوق ادخار تقاعدي يعمل طبقا للشريعة الإسلامية، ومؤخراً تمكن من إقناع زوجته أيضا أن تضع أموالها في نفس الصندوق.
محمود ليس الوحيد في أستراليا الذي يفضل استثمار أمواله في تلك الصناديق، آلاف الأستراليين قاموا بهذا التغيير بالفعل في السنوات الأخيرة، كجزء من حركة عالمية تسعى للاستثمار في مؤسسات يعتبرها الجيل الجديد من المستثمرين "غير ضارة بالمجتمع". وظهرت في كافة أنحاء العالم صناديق أموال تتفادى الاستثمار في صناعات السجائر، الأسلحة، القمار، الكحوليات، والمحتوى الجنسي.

Of the seven million regular gamblers in Australia, 132,000 regularly gamble on poker. (AAP) Source: AAP
تعتبر صناديق الادخار التقاعدي الأسترالية من أكبر صناديق الاستثمار في العالم، فقد بلغ حجم الأموال التي تديرها هذه الصناديق 2.9 تريليون دولار أسترالي بنهاية شهر يونيو/حزيران لعام 2019، طبقا لبيانات الاتحاد الأسترالي لصناديق التقاعد ASFA.
ومن المتوقع أيضا أن تنمو أموال صناديق الادخار التقاعدي في أستراليا بنسبة 170% خلال السنوات العشر القادمة لتصل إلى نحو ستة تريليون دولار بحلول عام 2030. وبالتالي هناك منافسة محتدمة بين الصناديق على اجتذاب المشتركين، ومؤخرا ظهرت في أستراليا الصناديق التي تعمل وفقا للشريعة الإسلامية لتستحوذ على نصيبها من السوق.
نمو متسارع مدفوع من خلفيات متعددة

تتحدث حلقة بودكاست لنحكِ عن المال عن أبرز خصائص صناديق السوبر أو التقاعد، لمعرفة كيف يمكن اختيار الصندوق الانسب في أستراليا. Source: AAP
بدأ صندوق "حجاز" للادخار التقاعدي عمله عام 2014، ومع بدايته أخذت أعداد المشتركين في الصندوق في النمو. ففي عام 2015 كان عدد المشتركين 143 مشتركاً، ووصل إلى 1323 مشتركاً عام 2017، وحاليا يبلغ عدد المشتركين 4000 مشترك.
يوفر هؤلاء المشتركون 155 مليون دولار يستثمرها لهم صندوق حجاز طبقا للشريعة الإسلامية.
سبب النمو السريع من وجهة نظر مزمل دهدلي مدير العمليات في حجاز هو زيادة الوعي عند المشتركين: "في الماضي لم يكن أحداً يعرف أين تذهب استثماراتهم، وما إذا كانت استثماراتهم تذهب لصناعة الأسلحة أو لشركات السجائر، لكن الكثيرون الآن يودون أن يستثمروا في أغراض لا تسيء للمجتمع."
ويقول دهدلي إن التجاوزات التي نشرتها لجنة التحقيق الملكية في تجاوزات القطاع المصرفي أضافت المزيد من المشتركين لصندوق حجاز: "كثير من المسلمين وغير المسلمين قالوا إنهم لا يودون أن يكون لهم صلة بهذه (التجاوزات)، شهدنا نموا هائلاً في عدد المشتركين بعد تحقيقات اللجنة الملكية."
أكثر من ثلثي المشتركين في صندوق حجاز للادخار التقاعدي والمسمى بصندوق التقاعد الأخلاقي الدولي هم من الرجال، فيما يبلغ متوسط أعمار المشتركين 35 عاماً، وتبلغ نسبة المشتركين من غير المسلمين 25% طبقا لآخر إحصاء أجراه الصندوق الذي يتخذ مدينة ملبورن مركزاً له. بالنسبة لدهدلي هذه النسبة المرتفعة وراءها أن الصندوق "يوزع استثماراته بشكل جيد ويستثمر بشكل أخلاقي."
استثمار محدود في أستراليا

Woolworths Source: AAP
يتفق طلال ياسين مؤسس صندوق كريسنت للادخار التقاعدي مع دهدلي في سبب إقبال غير المسلمين على الاستثمار. ففي صندوق كريسنت يشكل غير المسلمين نسبة بين 8-10% ويفسر ياسين هذه النسبة بأن المشتركين "يحبون إطارنا الأخلاقي، لدينا حاخام يهودي (مشترك) وعدة قسيسين، فنحن نستثمر على أساس أخلاقي وليس ديني."
لكن هذه الاستثمارات لا تحصد دائماً أكبر عائد للمستثمرين، حيث يقول ياسين إن الاستثمار الإسلامي "به نسبة مخاطرة قليلة وعائد متوسط."
يعتبر القطاع المالي الإسلامي أحد أكبر القطاعات المالية من حيث الحجم، فطبقاً للتقرير السنوي الذي تصدره وكالة رويترز وصل حجم القطاع المالي الإسلامي إلى 3.56 تريليون دولار عام 2017، ومن المتوقع أن يصل حجم القطاع إلى 5.63 تريليون دولار بنهاية الأعوام الخمسة المقبلة.

Islamic Finance sector has Compound annual growth rate of 6%. Source: Reuters Islamic Finance Development Report 2018
لكن الفرق بين القطاع المالي الإسلامي والقطاعات الاقتصادية الأخرى هو أنه يعمل ضمن محددات الشريعة. هذه المحددات تتمثل في عدم استخدام الفوائد البنكية ثابتة القيمة، وعدم الاستثمار في الشركات التي تعتمد على القروض بشكل كبير، وعدم الاستثمار في الصناعات التي تنافي الشريعة وهي قطاعات السجائر، الكحوليات، الأسلحة، المحتوى الجنسي، والقمار.
ورغم محدودية هذه القطاعات إلا أن منتجاتها منتشرة بشكل كبير في الشركات الأسترالية كما يوضح ياسين: "سيستغرب البعض عندما يعرفون أن وولورث من أكبر بائعي الكحول والسجائر في أستراليا، وأن وولورث يملك ماكينات (لعبة) بوكر يصل عددها لأربعة أضعاف (ماكينات) لاس فيجاس. ولذلك نسبة كبيرة من الأرباح تأتي من ثلاثة مصادر لا نستثمر فيها."
كما تعتمد كثير من الشركات الأسترالية على القروض في عملياتها، الأمر الذي يبعد عنها المستثمرين من قطاع التمويل الإسلامي، ففي أستراليا يتفق ممثلا صندوق حجاز وصندوق كريسنت على أن 10% فقط من الشركات الأسترالية يمكن الاستثمار فيها بشكل مطابق للشريعة. ويرى ياسين يرى أن الاستثمارات لا يجب أن يحددها نطاق جغرافي: "ليس هناك قيود على استثمار صناديق الادخارالتقاعدي، وأستراليا تشكل 2% من حجم الاستثمار العالمي."
يستثمر صندوق حجاز للادخار التقاعدي داخل أستراليا في شركات مثل حليب a2 وشركة ريو تينتو للمعادن Rio Tinto ، كما يستثمر خارج أستراليا في إكسون موبيل للنفط الأمريكية، وساب للتكنولوجيا الألمانية، وموراتا اليابانية.
فيما يستثمر صندوق كريسنت للادخار التقاعدي في القطاع الصحي، وقطاع"" البنية التحتية، أما خارج أستراليا فيضع كريسنت أمواله في قطاعات العقارات، والبيع بالتجزئة، والبنية التحتية في كندا والولايات المتحدة وأوروبا.
وتفرض الحكومة الأسترالية على صناديق الادخار التقاعدي نشر بيانات أدائها كل عام على الإنترنت، ولا يظهر صندوقا كريسنت أو حجاز في قائمة أفضل عشرة صناديق في أستراليا، لكن هذا لا يمنع القائمين عليها من التخطيط للمستقبل. وقال دهدلي إن حجاز تستعد بالفعل لإطلاق نظام تكافل، وهو النسخة الإسلامية من التأمين، خلال عام 2020، كما بدأ حجاز في اتخاذ الخطوات الرسمية لإطلاق بنك إسلامي في أستراليا عام 2023.