ولد زياد رحباني وفي قلبه نغمة، وفي عينيه سؤال .. لم تكن كلماته ولا الحانه ترفا، بل احتجاجا ناعما بموسيقى حادة، وفيها شيء من المراثي القديمة، كما في مسرحه، شيء من المدن المكسورة وبيروت التي تضحك لتخفي البكاء.
وفي صمته الأخير، احتجاج على قول لم يعد يليق ، لان " كل شئ عم ينهار " وتلك صرخته على خشبة المسرح وهذا ما يقوله الفرد في عصر الجماعات، اعتاد أن يمشي عكس السير، لا حبا بالعكس، بل لأن الطريق كان دائما مزدحما بالمألوف وهذا ماكان يرفضه ، لكنّه قال بما يكفي، وصرخ بما يكفي، وسخر حتى البكاء.
عن رحيله قال الموسيقار نصير شمة لـ"أس بي أس عربي" ان زياد الرحباني حالة متفردة ، كان حالة عربية مختلفة حتى في الجاز ، انه نبتة مستقلة عن الرحابنة ، وتأثيره سيبقى حتى على جيل جديد سيولد الان
واوضح نصير شمة "زياد الرحباني، تجربة مختلفة ، أولا عن الأغنية اللبنانية، ثانيا عن مشروع الرحابنة وعن والدته"، ومضى الى القول "ليس سهلا أن يولد مع الإنسان مشروع شخصي وأسلوب خاص به".
واشار الى انه "تأثر كثيرا بعالم الجاز، وعكسه بلطافة شديدة على الأغنية التي تشبه شخصيته، وتشبه مواقفه الحياتية"، مبينا انه "شخصية متمردة على كل الأشياء التي كانت ومتمرد بوعيه".
واضاف "زياد فنان صاحب موقف وظل يدافع عنه وهذا الموقف انعكس في الفن، وفي مواقفه الشخصية والحياتية وبصراحة كبيرة كانت معبرة عن شخصيته".
زياد الرحباني... من الجاز إلى المسرح الساخر ايقونة التفرد والتمرّد على القوالب
كانت الحان زياد الرحباني تشبه شخصيته، وتشبه بيروت .مقطّعة، شهية، غاضبة ، هشة حينا، وقاسية احيانا آخرى.
لحن لنفسه ما يشبه المرآة الصادحة "أنا مش كافر"، "عايشة وحدا بلاك"، "بما إنو " والحالة تعبانة وغيرها من الالحان التي حملت نبرة الاحتجاج فاللحن عنده موقف، والموقف عنده نغمة، وحين لحّن لفَيْروز أغاني أعاد تشكيل العلاقة بين اللغة والأذن.
وكانت الأغنية الشهيرة "سألوني الناس" التي جاءت تعبيرا عن غياب والده عاصي خلال فترة مرضه الانعطافة الاولى ، ثم توالت الاغاني التي حفرت مكانها في الذاكرة مثل "عودك رنان" "رجعت الشتوية"، "ولا كيف"، "البوسطة"
وحين لحّن لأمّه "زعلي طول انا وياك" و"كيفك إنت؟"، جعل الحبّ يبدو كنكسة، وجعل الهجران يبدو كقدر. كان ابن الموقف ، المتمرد ، لا ابن التسليم ، وعن هذا التفرد قال الموسيقار نصير شمة "الفنان عبارة عن مجموعة عناصر تُشكّل شخصية المتفردة ، إما تكون شخصية تشبه الكثير من الموجودين، وتصبح رقما وتذهب مع الزمن، أو تؤسس لها رؤية خاصة بها، وأسلوب خاص بها، وتفرّد مغاير للسائد والسابق" ، ماضيا الى القول "لذلك، زياد اليوم، لبنان والعالم العربي معظمه، منشغل برحيله وكل الفنانين متأثرين، لأنهم يحترمون فيه الفنان والموسيقي، ويحترمونه كفكر، ويحترمونه كشخص ، زياد تمرد بوعي، ولم يتمرد على جهل".
ويعد زياد الرحباني أحد أبرز المجددين في الأغنية اللبنانية مزج بين الجاز والموسيقى الشرقية، وقدم أعمالا مختلفة من حيث التوزيع والأسلوب.
ولم يكن مجرد امتداد لجوقة عظيمة اسمها "الرحابنة"، بل كان الانفصال الحاد، والشرخ الفني المربك، والانشقاق المحسوب عن أسطورة كانت تُحلق في السماء بينما اختار هو السير حافيا في أزقة بيروت.
الموسيقار نصير شمة : أثر زياد الرحباني سيظل محفورا في وجداننا
وقال الفنان نصير شمة "ان الأجساد ترحل لكن الأثر يبقى ، وأثر زياد سيظل محفورا بوجداننا".
واضاف " ليس فقط اليسار العربي، حتى الشباب اليوم الذي لم يعش بداياته، يرى فيه حالة فنية متفردة" لافتا الى أن "في رحيل زياد شيء فلسفي .. رحيل ترك أسئلة وإجابات في موسيقاه، ومسرحياته، وأفكاره".
وتابع مؤكدا ان "الجاز الذي ادخله زياد في الحانه ما كان جاز غربي ولا أميركي، كان حالة عربيّة خاصّة، استخدم الجاز مثل ما استخدمه الأفروأميركان كوسيلة ثورة وتمرد على واقع موجِع".
فيما قال الروائي العربي علي بدر "اكتشفت زياد الرحباني بالمراهقة، لم اشاهد زياد المألوف… كنت ارى فيه ظلّ لفرانك زابا، الموسيقي والمسرحي الأميركي المجنون بالانتقاد والسخرية ، صاحب الـ rock-opera والهجاء السياسي القاسي".
واضاف "زابا كان يفكّك الموسيقى الغربيّة، يلعب بالجاز وينتقل الى البلوز .. وزياد كان يعمل الشي نفسه، لكنه كان يركّبه فوق لهجتنا وواقعنا ، في البداية شعرت كأنّي أسمع محاولة تعريب لزابا لكن تمرده على القوالب الجماليّة والسياسيّة كان نسخة محليّة من تمرُّد زابا".
وزاد الروائي علي بدر مبينا "أوّل ما سمعت توزيع زياد وجدته غريب على الذائقة المشرقيّة؛ جُمَل عاميّة فاضحة، ساخرة، نقد طبقي وهذا كله موجود عند زابا بالأصل ، وللحظة فكرت اني اسمع فرانك زابا بنسخة عربيّة وحين تعمقت في عالمه اكثر فهمت إنّ زياد لا يقلّد، انما اعاد تشكيل زابا عربيا كمن ينقل الحسّ الساخر لسياق مَحَلّي مثقل بالسياسة والطوائف والحرب وبحساسية مفرطة".
الروائي علي بدر : اختار زياد الرحباني السخرية الحادة كسلاح
واشار الى ان زابا كان يهدم القيم الأميركيّة السائدة ، الدين، الإعلام، البرجوازيّة وزياد هاجم المجتمع اللبناني: الطائفيّة، الزعامة، الطبقة الوسطى واختار السخرية الحادّة كسلاح.
ومضى الى القول " قام زياد نقل حساس للتقنية الساخرة إلى سياق آخر، سياق محلي، مثقل بالسياسة، مثقل بالطوائف، بالحرب، بصورة الزعيم، التباغ، والديناميت ، واستخدم الأغنية كفضاء درامي، يحتوي على حوارات ومقاطع، تحكمها كولاج مموسيقي ومسرحي ساخر".
كتب زياد الرحباني أولى مسرحياته، سهرية، بعمر السابعة عشرة، وأطلق بالنسبة لبكرا شو؟ بعمر العشرين وذلك في العام 1980 ، ليصفع بها ، وحصدت مسرحية "فيلم أميركي طويل" التي كانت وقائعها تجري في مستشفى للأمراض العقلية نجاحا منقطع النظير، وفيها اختصر مشاكل المجتمع اللبناني وطوائفه التي كانت تغذّي آنذاك نار الحرب الأهلية ، كان زياد موسيقياً، لكنه أيضا صحافي ميداني، وشاعر شارع، وساخر بالفطرة، وغاضب بالموسيقى، وعن هذا الاشتباك قال الروائي العربي علي بدر "زياد يضحك من السلطة، من العائلة، من الحب، من لبنان نفسه ودائمًا هو على الهامش ، هامش متمرد"، مضيفا " لما ذهبت لسوريا، وجدت الأمر مختلف ، زياد في دمشق آنذاك أيقونة، محبوب، مشفّر بالوجدان، خصوصا عند الفتيات وهذه ظاهرة لافتة ، وأعتقد أن سر هذا الانجذاب في سوريا هو تعويض عن نقد سياسي ممنوع ولأنّ لبنان باللاوعي السوري هو البديل المنشود للحرّيّة كما زياد هو اللسان البديل".
وخلص علي بدر الى القول "حصر دور زياد بالشخص المضحك طول الوقت أمر مرهق ومؤذي له فالسخرية الحقيقيّة ليست بالنكتة اللحظيّة، بل بالمفارقة والتوتّر وهنا قوّة الفن" مبينا ان "السخرية الحقيقية هي التي يراها الناس الجديّون أو حتى الحزينون ، لأنهم وحدهم من يبصروا الكارثة خلف الضحك وهنا تكمن عبقرية زياد وحتى زابا".
زياد الرحباني مفكر بصوت عال في نصوصه، لا تكاد تميز في مسرحه بين البوح والتحليل، وفي برامجه، لا تميز بين السخرية المرة والبصيرة ، فكتب المسرح بلهجة الناس، وغنّى الحنين بلغة المقهورين، ورسم بيروت كما هي: متعبة، جميلة، منكوبة، ولا تزال تشرب القهوة على عجل.
الشاعر عبد الخالق كيطان : زياد الرحباني قدم المسرح الاحتجاجي لانه كان يريد ان يهز المجتمع ليأخذ دوره
الشاعر والكاتب المسرحي عبد الخالق كيطان قال لـ"أس بي أس عربي" ان قدّم في هذا الاتجاه ما يمكن أن نسمّيه المسرح الاحتجاجي، ولكنه المسرح الاحتجاجي اليائس، وهذا المسرح الذي لا يريد أن يوجّه رسائل رسولية إلى المجتمع، وإنما يريد أن يهزّ المجتمع بهزّات عميقة جدا لكي يأخذ دوره في ظل هذه الفوضى، في ظل هذا الصراع الخطير الذي يدور بين الجار وجاره، كما شهدناه طبعا في لبنان، والعراق، وسوريا، وفلسطين، وكل دولنا العربية" .
رحيل زياد رحباني فصل أخير في الاعتراض ، رحيلٌ على مقام الاحتجاج .. وكأنه جمهوره في مواجهة واحد سؤاله : بالنسبة لبكرة شو؟ من دون أن يعطي جوابا،
الشاعر وديع سعادة : صمت زياد الاخير قبل وفاته إدانة كبرى لما يجري في هذا العالم من دون أن نتمكن من تغييره
وديع سعادة عن هذا تحدث لـ"اس بي أس عربي الشاعر اللبناني وديع سعادة "يتفق الجميع على أن ما أنجزه زياد الرحباني في حياته كان قمة في الإنجاز الفني، لكني أريد أن أحيي صمته في السنوات الأخيرة من حياته".
وأضاف "هذا الصمت يحمل مفهوما عميقا للحياة، وإدانة كبرى لما يجري في هذا العالم من دون أن نتمكن من تغييره".
ومضى الى القول "أريد أن أسأل: ما الذي ينبغي أكثر؟ أن نكرم الفنانين والمثقفين حين يموتون أم يجب أن نكرمهم في حياتهم؟ بالتأكيد يجب أن نكرمهم وهم أحياء".
وختم سعادة بالقول "أما بالنسبة لبكرا شو، فإن العالم يا زياد يسير من سيء إلى أسوأ".
رحل زياد رحباني عن عمر ناهز 69 عاماً، بعد مسيرة فنية صاخبة كمن يضع آخر نوتة موسيقية على ورقة بيضاء، ثم يطويها من دون وداع ، فيما صدى الحانه يظل عاليا مثل موجة نادرة
يمكنكم الاستماع للتقرير في التدوين الصوتي أعلاه.