من الشعر إلى الفن، ومن النص إلى اللوحة .. رحلة بدأت بقراءة عن بُعد وانتهت بلقاء في ملبورن. ثنائي سوري يجمع بين الكلمة والصورة، بين القصيدة واللوحة والفن البصري: الشاعر والباحث موفق الحجّار، والفنانة البصرية والشاعرة بتول أحمد. التقيا أولاً عبر نصوصهما، فكان الشعر هو الجسر، قبل أن تجمعهما رحلة اللجوء إلى أستراليا حيث تحوّل لقاؤهما إلى شراكة حياتية وإبداعية، تمزج بين القصيدة واللوحة وتروي حكاية الاغتراب بلغة الفن.
وعن المدينة التي في الذاكرة والتي لا تفارق النصوص وكيف تحولت إلى منجز، وكيف يمكن للكلمة واللوحة أن تتعانقا في مشروع واحد ، تحدث لـ"أس بي أس عربي" الشاعر والباحث موفق الحجار ورفيقة دربه ، زوجته الفنانة البصرية والشاعر بتول احمد .
يقول موفق الحجّار إن بدايته مع الأدب تعود إلى سنوات المراهقة حين جلب والده صندوقا من الكتب الزائدة من صديقه العامل في اتحاد الكتّاب العرب، موضحا أنه انبهر بمسرحية "مذكرات بقرة مجنونة" لإسماعيل همتي، ومنها بدأ اهتمامه بالأدب.
وأكد أنه تعرف في تلك المرحلة على قصائد نزار قباني، مشددا على أن الولع بالشعر رافقه منذ ذلك الوقت.
واستذكر الحجّار تفاصيل طفولته قائلا إن جدته كانت خيّاطة وكان يساعدها وهو صغير، وكانت تطلب منه الكشتبان دائما، مضيفا "أعتقد أني حملت معي هذا الكشتبان من دمشق، وحملت الذكريات كزاد أخير لا ينفد".
مدينة لا تفارق النصوص
وأشار إلى أن المدينة تمثل بالنسبة له العنصر الأساسي في فضائه الشخصي، مؤكدا أنه "ابن دمشق التي اعتاد على ضجيجها وتداخل أصواتها وجمالها وعبثهاوالمدينة عنصر أساسي في فضائي الشخصي". وأضاف أنه "لم يستطع أن يجد راحة نفسية إلا في الأماكن التي تشبه مدينته".
ومضى إلى القول إن الأشجار في ملبورن تثير ذاكرته الشجرية الدمشقية، ولا سيما شجرة الزنزلخ التي رآها قرب منزله فاستعاد طفولته.
موفق الحجار : كل كتابة بالنسبة له هي بحث عن مكان مفقود وقصائدي استعاضة مكانية
وأوضح الحجّار أن كل كتابة بالنسبة له هي بحث عن مكان مفقود، مؤكدا أن الغربة جعلت نصوصه محاولة لبناء فضاء بديل يعيد إليه مدينته بالكلمات.
وأوضح أن قصائده تمثل استعاضة مكانية لدمشق التي تركها، مشددا على أن المدينة النصية لا يمكن أن تطابق الواقع، لكنها تظل شكلا من أشكال المقاومة ضد النسيان.
ومضى الى القول "أنا أبحث من خلال نصوص عن هذا المكان مرة أخرى أو أحاول بناءه من خلال الكلمات".

وعن مخطوطته الجديدة "مسودات لماكينة تمزيق الورق"، أكد أنها تعكس إيمانه بأن النصوص كلها مسودات غير مكتملة، وأن فعل القراءة أو النشر هو تمزيق نهائي لها.
وأوضح أنه يسعى من خلالها إلى قصائد قصيرة وغير منتهية، معتبراً أن النقصان جزء من جمال النص.
قصيدة جمعت موفق وبتول وفتحت الباب لنقاشات طويلة ولحب كبير بعد ان اكتشفا المشتركات بينهما

وأضاف أن " وجودهما معا في المنفى هو تذكير دائم بالغربة"، موضحا أن "تواجدهما المشترك يمنحهما شعورا بوطن داخلي، لكن الخارج يظل منفى يذكّرهما دومًا بما فقداه".
أما بتول أحمد فأوضحت أنها قد تعرفت على موفق أول مرة من خلال قصيدته "الارض" التي كتبها خلال جائحة كورونا، مؤكدة أن القصيدة فتحت لها مجالا للحوار معه، وأن النقاشات الطويلة بينهما تحولت إلى حب طبيعي.
وقالت "اكتشفنا الأشياء المشتركة بيننا، الشعر والفن جمعانا، وببساطة شديدة وقعنا في الحب".
وأضافت أن حياتهما اليومية مليئة بالشعر والفن، وأن الحوار المستمر بينهما صار طريقة عيش، مؤكدة أن كل تفاصيل يومهما تتداخل فيها الكلمة واللوحة.
البعد النفسي في تجربة بتول أحمد
أوضحت بتول أنها درست علم النفس بدافع اهتمامها بالمجتمع وتطويره، لكنها عادت لاحقا إلى شغفها الأول بالفن الذي رافق طفولتها.
وأكدت أن والدها كان يرسم، وأن البيت لم يكن يخلو من الألوان، ما جعلها محاطة بأجواء فنية.
وأضافت أنها بعد إشباع اهتمامها بعلم النفس قررت دراسة الفنون البصرية أكاديميا، مشيرة إلى أن علم النفس والفن يخدمان بعضهما ويشتغلان معا.
ورأت بتول احمد أن اختيارها ثيمات الهوية والاغتراب والجندر جاء نتيجة قلق داخلي وأسئلة متكررة عن موقعها في الحياة، مؤكدة أن هذه الثيمات تفرض نفسها بشكل تلقائي في أعمالها الفنية.
تحدثت بتول عن عملها "Dreams of a Language"، موضحة أنها شعرت خلاله بفقدان كلمة بالعربية في المنام، فبكت طوال الليل، وقالت "أدركت أن المنفى يلاحقني حتى في اللاوعي والأحلام، وأن فقد اللغة قد يكون مؤلما أكثر من فقد الأشياء المادية".
بتول أحمد : في مرحلة ما جربت تغيير الوسائد مرارا واخيرا اكتشفت ان المشكلة في رأسي المثقل بالاحلام التي تلاحقني
وأضافت أنها استعانت بوسائط متعددة مثل الصوت، الفيديو، القصيدة، والمجسمات لتعبر عن الفكرة، مؤكدة أن "اللغة في حد ذاتها تحمل عناصر بصرية".

عمل الوسادة للفنانة بتول أحمد
ومضت إلى القول إنها اكتشفت في النهاية أن المشكلة ليست في الوسائد، بل في رأسها المثقل والأحلام الثقيلة التي تلاحقها.
بتول أحمد : اللجوء يترك أثره تفاصيل اللاوعي، وأن الأحلام قد تكون ساحة مواجهة أخرى مع الغربة
وأكدت أن تلك التجربة المؤلمة ألهمتها فكرة العمل الفني، مشيرة إلى أنها جعلت من "المخدة" رمزا لتروي عبره عن المنفى واللجوء، وكيف يتجسدان حتى في اللاوعي والأحلام.
وخلصت إلى القول إن "اللجوء يترك أثره حتى في تفاصيل اللاوعي، وأن الأحلام قد تكون ساحة مواجهة أخرى مع الغربة".
مشاريع مشتركة وأفق مستقبلي
وعن المشاريع المشتركة المستقبلية أكد موفق أن هناك دائما إمكانية لمشاريع مشتركة تجمع بين نصوصه ولوحات بتول، موضحا أن "النقاشات اليومية بينهما تولّد أفكارا جديدة باستمرار".
وقال إنه "متحمس لتفعيل المشهد الثقافي العربي في أستراليا"، واعتبر أن اللقاء مع أبناء الجالية العربية يفتح بابا لتجارب جماعية.
أما بتول فأشارت إلى أن الإلهام يأتي بالدرجة الأولى من الحوار المستمر بينهما، مؤكدة أن القصيدة قد تستفزها لإنجاز لوحة، أو أن اللوحة قد تدفع موفق إلى كتابة نص جديد.
