أظهرت رسالة أممية حملت توقيع الامين العام للامم المتحدة انطونيو غوتيريش ، أن الرئيس العراقي السابق برهم صالح اختير ليكون المفوض السامي الجديد لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة.
وجاء في الرسالة التي وقعها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بتاريخ 11 ديسمبر/ كانون الأول، أنه تم تعيين صالح لولاية مدتها خمس سنوات، تبدأ في أول يناير/ كانون الثاني 2026. وكشفت الوثيقة أن الأمين العام سيقترح على الجمعية العامة الموافقة على تعيين صالح، وهو إجراء روتيني عادة، لولاية من خمس سنوات اعتبارا من الأول من كانون الثاني/يناير.
وسيخلف صالح الإيطالي فيليبو غراندي، المسؤول المخضرم بالأمم المتحدة والذي يشغل المنصب منذ عام 2016.
ويواجه صالح، وهو مهندس تلقى تعليمه في بريطانيا، ويتحدر من إقليم كردستان العراق، تحديات كبيرة في ظل وصول أعداد النازحين واللاجئين عالمياً إلى مستويات قياسية تقارب ضعف ما كانت عليه عند تولي غراندي المنصب.
وفي الوقت نفسه، انخفض التمويل هذا العام نتيجة تقليص الولايات المتحدة مساهماتها، وتحويل جهات مانحة غربية أخرى أموالها إلى قطاع الدفاع. وتنافس نحو عشرة مرشحين على المنصب، من بينهم شخصيات سياسية، إلى جانب مسؤول تنفيذي في شركة أيكيا، وطبيب طوارئ، وشخصية تلفزيونية. وكان أكثر من نصفهم من أوروبا تماشياً مع تقليد اختيار رئيس للمفوضية، ومقرها جنيف، من إحدى الدول المانحة الرئيسية.
أظهرت الرسالة الأممية، أنّ صالح اختير لهذا المنصب "في خطوة تمثل خروجاً عن التقليد المتبع بتعيين شخصيات من الدول المانحة الكبرى"، وفق وكالة رويترز.
وهذه هي المرة الأولى التي يتولى فيها منصب رئاسة المفوضية شخصٌ يتحدّر من واحدة من أكثر المناطق التي يأتي منها اللاجئون في العالم منذ منتصف القرن الماضي.
وسيتولى صالح مهامه في مطلع يناير كانون الثاني المقبل، في وقت تواجه مفوضية شؤون اللاجئين أزمة هائلة بعد أن تضاعف تقريبا عدد الأشخاص المُجبَرين على النزوح في العالم خلال عشر سنوات، فيما انخفض تمويل المساعدات الدولية بشكل حاد، ولا سيما مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.
تعيينٌ بانتظار موافقة اللجنة التنفيذية، لكنه كافٍ ليضع اسماً عراقياً في أحد أكثر المناصب الإنسانية حساسية في العالم.
وهكذا، ينتقل رجلٌ ، من قصر السلام إلى مكاتب جنيف .. حيث لا تُدار الدول، بل تُدار أزمات البشر ، بعد ان شهد الحروب والابادة والترحيل ، عرف دهاليز السلطة في بغداد، وممرات التفاوض في واشنطن.
برهم صالح .. من السليمانية إلى المنفى
وُلد برهم صالح عام 1960 في السليمانية، في بيتٍ كان القانون لغته اليومية؛ فوالده قاضٍ وأمه ناشطة في مجال حقوق المرأة ، والعدالة فكرة مبكرة في الوعي.
لكن العراق السبعيناتي لم يكن مكاناً حيادياً للأفكار ففي أواخر المراهقة، اختار صالح السياسة. انضم إلى الاتحاد الوطني الكردستاني، الحزب اليساري الذي كان يرأسه مام جلال طالباني، قبل أن تداهمه الدولة الثقيلة.
عام 1979، اعتُقل مرتين. والسبب بسيط وخطير: صورة .. "تعرض للتعذيب" في سجن كركوك بسبب التقاطه صورا للمظاهرات المناهضة للحكومة في المدينة وتلك الصورة كانت كافية لفتح باب الزنزانة، وتعريف الشاب على وجه السلطة العاري.
خرج بعد أكثر من شهر، لكن السجن لم يخرج منه سريعاً. بقي كأثرٍ داخلي، ككسرٍ غير مرئي في السيرة.
أنهى دراسته بتفوق، وغادر إلى بريطانيا.
من العراق إلى المنفى، كأن حياته بدأت تُكتب على شكل جسر: عبور دائم من ضفة إلى أخرى.
المهندس الذي اختار السياسة
في كارديف، درس الهندسة المدنية وفي ليفربول، نال الدكتوراه في الإحصاء وتطبيقات الكمبيوتر في الهندسة.
أرقام، نماذج، احتمالات… عقلٌ تعلّم التفكير بلغة الأنظمة.
لكن صالح لم يكن مهندس طرقٍ فقط، بل مهندس علاقات.
في لندن، تولّى مسؤولية العلاقات الخارجية لحزبه.
وفي واشنطن، أصبح ممثل الاتحاد الوطني، ثم أول ممثل فعلي لحكومة إقليم كردستان.
هناك، في عاصمة القرار الأميركي، تعلّم كيف تُصاغ السياسة بلغة المصالح، وكيف تتحوّل القضايا العادلة إلى ملفات تفاوض.
جسرٌ آخر، هذه المرة بين اقليم كردستان المحاصر من الدولة والعالم.
بعد 2003: العودة إلى دولة منهارة
عاد صالح إلى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، بلدٌ بلا خرائط واضحة، ومؤسسات قيد التشكّل، واقتصاد يتعلّم المشي فوق أنقاضه.
تولّى وزارة التخطيط، ثم منصب نائب رئيس الوزراء.
لاحقاً، ترأس حكومة إقليم كردستان، وقاد مفاوضات اقتصادية حساسة، بينها أول عقد نفطي مع "إكسون موبيل".
كان حاضراً في قلب السلطة، لكنه لم يبدُ دائماً منسجماً معها.
انشقّ، عاد، تفاوض، تراجع. ومسيرته السياسية تشبه العراق نفسه: خطوط متقاطعة، انعطافات حادة، وتسويات مؤقتة ، ومحطات استراحة لم يغب عنها الحوار
فتوج علاقته بواشنطن بتأسيسه في عام 2007 "الجامعة الأمريكية" في مدينة السليمانية التي شغل منصب رئيس مجلس أمنائها ، والتي اصبحت مسرحا لملتقى سياسي وفكري سنوي يجمع النخف من حول العالم لبحث ازمات العراق والمنطقة والعالم.
قصر السلام .. وهدوء المنصب
عام 2018، انتُخب رئيساً لجمهورية العراق ليتولّى الرئاسة بين عامي 2018 و2022، وهو منصب فخري إلى حد كبير تُرك تقليدياً للأكراد منذ أول انتخابات تعددية في 2005؛ حيث يكون رئيس الوزراء شيعياً، ورئيس البرلمان سنياً ، في واحدة من معادلات التوافق بالعراق.
منصبٌ رمزي في دولة تُدار فعلياً من خارج القصر، لكن رمزيته لا تُستهان.
في سنوات رئاسته، حاول صالح تقديم صورة مختلفة: خطاب أقل حدّة، لغة أقرب إلى الدولة منها إلى الفصيل.
لكن العراق كان أثقل من أي خطاب.
غادر المنصب عام 2022، من دون ضجيج. وكأن الرجل الذي أمضى عمره في العبور، يعرف متى يغادر الجسر.
من السياسة إلى الإنسانية
اليوم، يعود اسمه من بوابة مختلفة. ليس انتخاباً، بل ترشيحاً أممياً. وليس خطاباً سياسياً، بل رسالة انسانية وإدارية ، فمفوضية اللاجئين التي سيقودها، تواجه أرقاماً غير مسبوقة: نزوح عالمي قياسي، وتمويل يتراجع، ومانحون يعيدون ترتيب أولوياتهم نحو الدفاع.
المفارقة هنا قاسية: رجل خرج لاجئاً سياسياً في شبابه، يعود ليقود مؤسسة تُعنى باللاجئين ، وكأن الدائرة أُغلقت أخيراً.
اختبار الذاكرة والمسؤولية
برهم صالح ليس تكنوقراطياً خالصاً، ولا سياسياً تقليدياً ؛ فهو نتاج منطقة اختبرت القمع والمنفى والسلطة في آنٍ واحد.
هل تكفي هذه السيرة لقيادة واحدة من أكثر المؤسسات الإنسانية ضغطاً؟
السؤال مفتوح. لكن ما هو مؤكد، أن الرجل الذي تعلّم الحسابات في الهندسة، واللغة في السياسة، والوجع في السجن، يقف اليوم أمام امتحان من نوع آخر:
أن يحوّل الذاكرة الشخصية إلى سياسة عامة،
وأن يجعل من الجسور التي عبرها يوماً… ممرات نجاة لآخرين.














