قال توني بلير الاسم الذي يعود إلى الواجهة من بوابة غزة، بعد عقدين من خروجه من "داونينغ ستريت" إن الرئيس ترامب خطة شجاعة وذكية، يمكن إذا تم الاتفاق عليها أن تُنهي الحرب، وتُدخل الإغاثة الفورية لقطاع غزة، وتمنح فرصة لمستقبل أكثر إشراقا وأفضل لسكانه، مع ضمان الأمن المطلق والمستمر لإسرائيل والإفراج عن جميع الرهائن".
ووفق الخطة، من المقرر أن يكون بلير عضوا في "مجلس إدارة السلام" الذي سيشرف على المرحلة الانتقالية في غزة وسيرأسه ترامب.
توني بلير، يعود اليوم من ظلال بغداد إلى مستقبل غزة وبين من يراه مهندسا للسلام ومن يحمّله وزر غزو العراق، يقف الرجلٌ الذي صنع مجده من "اتفاق الجمعة العظيمة" على خط النار من جديد ولكن هذه المرة من مبعوث الرباعية إلى المرشح المحتمل لإعادة إعمار قطاع غزة .
في بودكاست "وراء الخبر"، نستعيد سيرة الزعيم البريطاني ونقرأ في عودته المحتملة إلى الشرق الأوسط
عاد الاسم الذي لم يغادر المشهد. توني بلير، المفاوض الذي بنى سمعته على أنقاض الحرب، يعود اليوم إلى الواجهة من بوابة غزة، كأن قدره أن يطلّ كل مرة من رماد منطقةٍ منكوبة.
الرجل الذي قال يوما إن "الشر يجب أن يُواجَه بالقوة"، يقدَّم الآن كوجه لـ"السلام".
تناقضٌ يبدو مألوفا في سيرة بلير ، بين من رأى فيه مُصلحا سياسيا بارعا، ومن يراه "مهندس الكوارث الأخلاقية" في مطلع القرن الجديد.
من إصلاح حزب العمال إلى حروب العالم
في منتصف التسعينات، بدا بلير كأنه المولود الشرعي لزمن العولمة الصاعدة.
شابٌّ بريطاني متأنق، خرج من قاعات أوكسفورد إلى زعامة حزب عجوز، وأعاد إليه بريق السلطة بعد 18 عاما من الهزائم.
عام 1997، أصبح أصغر رئيس وزراء منذ قرنين، ودخل "داونينغ ستريت" على إيقاع وعود بالتجديد، فأعاد صياغة الحزب تحت شعار "العمال الجديد" واحتضنه الرأي العام كرمز لولادة سياسية جديدة.
بعد عام واحد فقط، وقّع اتفاقية "الجمعة العظيمة"، منهيا عقودا من الدم في إيرلندا الشمالية.
بدا حينها وكأنه يصنع سلاما قابلا للتصدير. لكن التاريخ، كما سيُظهر لاحقا، لا يمنح صكوكا طويلة الأجل.
عقيدة التدخل.. حين يصبح السلام مبررا للحرب
في خطاب شهير بجامعة شيكاغو عام 1999، وضع بلير ما أسماه "عقيدة المجتمع الدولي"، ممهّدا لتدخلات ما بعد الحرب الباردة، حيث يمكن للديمقراطيات "أن تتدخل في صراعات الآخرين إذا كان الصمت يعني السماح بالشر".
كان ذلك التأسيس الفلسفي لما سيتحوّل لاحقًا إلى سياسة "التدخل الليبرالي" التي تبنّتها لندن وواشنطن.
حين استهدفت طائرات "القاعدة" نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001، لم يتردد بلير في أن يكون "الصوت الأخلاقي" للحرب القادمة.
تحالف مع جورج بوش الابن في غزو أفغانستان، ثم العراق عام 2003، معلنا أن "العالم لا يمكنه أن يسمح بديكتاتور مسلّح بأسلحة دمار شامل".
ورغم ان الحرب تلك تحولت إلى جرحٍ بريطاني مفتوح. خرج أكثر من مليون متظاهر إلى شوارع لندن، واستقال وزيران احتجاجا. الا أن بلير، فظلّ يبرّر الغزو باعتباره "قرارا صعبا لكنه صائب".
في أبريل/نيسان 2005، وأثناء الحملة الانتخابية، أعلن توني بلير أنه سيغادر مقر الحكومة مع نهاية ولايته الثالثة. وفي مايو/أيار 2005 فاز فعلاً بفترة ثالثة، ليصبح أول رئيس وزراء من حزب العمال يحقق ثلاثة انتصارات متتالية في الانتخابات العامة.
لكن هذا الإنجاز جاء في ظل نسبة مشاركة بلغت نحو 61.4 في المئة من إجمالي الناخبين، وهي من أدنى النسب في تاريخ الانتخابات البريطانية الحديثة، دفعته الى التنحي لاحقا .
وظل تقرير "تشيلكوت" يلاحقه ففي عام 2016 فصله إلى الأبد عن طهر نواياه المزعومة، مؤكّدا أنه "لم يكن صريحا"، وأن حربه في العراق قامت على "معلومات مشكوك فيها". حين اعتذر بلير، قال إنه "نادم"، لكنه كرر جملته المألوفة "فعلت ما اعتقدت أنه صحيح".
الشرق الأوسط... الهاجس المستمر
بعد استقالته عام 2007، عُيّن مبعوثا للجنة الرباعية الدولية للشرق الأوسط. ثمانٍ من السنوات قضاها في الظل بين العواصم، يتحدث عن التنمية الفلسطينية بينما تتآكل فكرة "حل الدولتين"
لم يحقّق الرجل الكثير ، حتى رحيله عن المنصب عام 2015 بدا كأنه اعتراف صامت بالفشل.
لكن بلير لا يغادر المشهد بسهولة. أعاد بناء نفسه من خلال "معهد التغيير العالمي" الذي أسسه عام 2016، مركزا على قضايا التطرف والحوكمة.
ومع إدارة ترامب، ظلّ يقدّم المشورة ويكتب سيناريوهات "اليوم التالي" لغزة، بعضها أثار جدلا واسعا بعد أن تحدّثت تقارير عن "خطط تعويض مالية" للفلسطينيين لمغادرة القطاع، وهي ادعاءات نفى معهد بلير صحتها.
من ظلال بغداد إلى أطلال غزة
الآن، وبينما يطرح ترامب "خطة سلام" جديدة، يظهر بلير كاسم محتمل لقيادة هيئة دولية لإعادة إعمار غزة.
ترحيب أميركي وخليجي، ورفض فلسطيني.
لكن بلير يردّ ببراغماتية باردة "انها الفرصة الأفضل لإنهاء عامين من المعاناة"
وهناك من يسأل : ما الذي يعيده الآن إلى قلب الشرق الأوسط؟ الخبرة؟ أم رؤية القديم بأن الدبلوماسية قادرة على إصلاح ما دمّرته القوة؟
مكتب بلير أحجم عن الإدلاء بتعليقات عن دوره المرتقب في خطة ترامب ، لكنه أصدر بيانا قال عنها .. "خطة جريئة وذكية" توفر أفضل فرصة لإنهاء الحرب.
السياسي الذي لا يعتزل
توني بلير لا يغيب، إنه من طينة الساسة الذين يتحوّلون من فاعلين إلى رموز، ومن رموز إلى أطيافٍ تعود كلما استُدعي الحديث عن "إدارة الأزمات المستعصية".
ويقول مؤيدوه إنه يفهم آليات العالم الحديث، ويملك أدوات الإقناع والتفاوض. أما خصومه، فيرونه التجسيد الأنيق للحظة يُباع فيها السلام على مائدة المصالح.
في النهاية، ربما لا شيء يلخّص إرث بلير أكثر من هذه المفارقة: أنه الرجل الذي وقّع اتفاق سلام في إيرلندا باسم الأمل، ثم وقّع حرب العراق باسم العدالة.
واليوم، بعد ربع قرن، يعود من جديد ليكتب فصلًا آخر في كتاب لم يُغلق بعد... كتاب الشرق الأوسط.