في قلب مدينة صيدا اللبنانية، عام 1969، وُلد صوت أصبح فيما بعد من أروع الأصوات في العالم العربي، فضل عبد الرحمن شمندر، المعروف بـ "فضل شاكر". نشأ في بيئة بسيطة بين دفء أسرته وأحلام كبيرة، وحمل صوته رسالة تعبر عن الناس وهمومهم. لم تكن أغانيه مجرد ألحان جميلة، بل كانت مرآة لواقع لبنان الذي عانى من أزمات وأحزان عميقة.
كبر فضل شاكر مع صوت لبنان المتغير، الذي شهد حربًا أهلية مدمرة أثرت على الجميع. مع نهاية التسعينات، دخل فضل شاكر عالم الفن بقوة، مقدماً أغاني خالدة مثل "لو على قلبي" و"بياع القلوب"، وصوته الدافئ أصبح ملاذًا لكل قلب عاشق. لكن مع تصاعد الأحداث السياسية في لبنان والمنطقة، بدأ الظل يقترب منه تدريجيًا.
في عام 2012، أعلن فضل اعتزاله بشكل مفاجئ، بعد أن اقترب من الشيخ أحمد الأسير، الزعيم المتشدد الذي شكل تحديًا للسلطات اللبنانية. في حزيران 2013، اندلعت معارك عنيفة بين أنصار الأسير والجيش اللبناني في بلدة عبرا، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى من الطرفين. وسط هذا المشهد الدموي، كان فضل شاكر حاضراً لكنه اختفى بعدها، وتوارى في مخيم عين الحلوة، مختبئًا بين أزقة اللاجئين، بعيدًا عن الأنظار.
في تلك الفترة، انتشر فيديو يظهر فضل وهو يتشمت بمقتل عناصر الجيش اللبناني، وهو فيديو قيل إنه صُور قبل أحداث عبرا، ولم يكن يقصد به الجيش، لكنه زاد من الجدل حوله.
منذ ذلك الحين، أصبح فضل شاكر مطاردًا، محكومًا عليه غيابيًا بالسجن لمدة 15 سنة، متهمًا بدعم الإرهاب وتمويله، وهو ما ينفيه بشدة.
رغم كل هذه الأحداث، لم يترك فضل الفن تمامًا. ففي عام 2022، عاد بصوت لا يزال يحمل الحنين في أغنية "بجامل ناس"، من كلمات الشاعر المصري محمد الجمال، الذي وصفه بأنه ما زال يغني للحياة رغم كل الجراح. كما شاركه ابنه محمد شاكر في أداء أغنية "كيفك عفراقي"، التي حققت نجاحًا كبيرًا وأعادت المستمعين إلى رومانسية فضل شاكر التي قل نظيرها.
وفي أكتوبر 2025، وبعد سنوات من الاختفاء، وقع الحدث المنتظر، حيث سلّم فضل شاكر نفسه إلى استخبارات الجيش اللبناني عند مدخل مخيم عين الحلوة، هادئًا ومتفائلًا، وكأنه يبدأ معركة جديدة مع العدالة والقانون. بعدها، ألغى القضاء العسكري الحكم الغيابي وابتدأت التحقيقات من جديد: فتحت صفحة جديدة في حياة الفنان الذي عاش بين الفن والسياسة، بين الإعجاب والملاحقة، وبين الأضواء والظلال.
مع تسليم فضل نفسه، فتحت العديد من الأسئلة بين مؤيد له يأمل بالصفح عنه، ومناوئ ينادي بإعادة محاكمته وإنزال أشد العقوبات عليه. هل هي صفقة سياسية تحمل أطرافًا عليا؟ أم أن الأمر شأن لبناني محض؟
هل ستُكتب نهاية مختلفة هذه المرة؟ وما الذي تحمله الأيام القادمة لفضل شاكر؟ من المستفيد من عودة الغائب، ومن المتضرر من ظهوره؟