في كل لوحةٍ يرسمها، ثمة ذاكرة تنبض، وجرحٌ يُرمم، وصوتٌ لا يحتاج إلى ميكروفون ، انه الفنان التشكيلي طالب صبحي عودة ، لا يرسم كي يلفت الأنظار، بل ليقول شيئا عالقا بين الذاكرة والحنين، بين بغداد وكوينزلاند.
وفي أعماله، تتداخل الأجساد، تتشابك الأيدي، تتكسّر الوجوه، وتعود لتتشكل من جديد، هاجر إلى أستراليا، ولم يترك العراق… بل حمله معه في ألوانه، في ذاكرته، وفي تفاصيل الخطوط والظلال كما شاهد حي على ذاكرة عراقية متشظية.
وفي حديث خاص مع لـ"أس بي أس عربي"، استعاد الفنان التشكيلي العراقي طالب صبحي عودة محطات من رحلته الطويلة، من جاليريات بغداد إلى صالات أستراليا، حيث يواصل الرسم كأنه يرمّم هشاشة إنسان، ويرسم دوما كما لو أن اللوحة آخر ما تبقّى من الوطن.
وقال إنه بدأ ممارسة الفن منذ الطفولة، لكن التحوّل الحقيقي في وعيه الفني حصل أيام الدراسة الإعدادية، حين أدرك أن لديه قدرة خاصة على التلوين.
وأشار إلى أنه وقف بعد التخرّج أمام خيارين: أكاديمية الفنون الجميلة أو كلية الهندسة قسم التصميم العسكري، فاختار اللون لأنه الأقرب إلى روحه.
وأكد صبحي أن "رحلته الفنية تشكّلت في ظل تأثير مزدوج من اثنين من أعلام الفن العراقي، هما المعلم الاول في اللون فائق حسن وكاظم حيدر"، لافتا الى ان الفنان كاظم حيدر دفعه للتفكير في اللوحة بوصفها "فكرة لا مجرد جدار ملوّن"، ومضى إلى القول إن هذا الانقسام الخلاق بين اللون والفكرة ظلّ يرافق تجربته طوال سنوات دراسته وبعدها.

لوحة تشبه الرحلة .. طالب عودة يرسم كما لو أن الوطن لم يغادره
وأوضح عودة أن المدرسة العراقية في الفن التشكيلي ظلت تعاني من ارتباك واضح نتيجة الأوضاع السياسية.
ولفت إلى أن هذا الارتباك جعل من الصعب الحفاظ على هوية واضحة أو تطور طبيعي في مسارات التشكيل العراقي، رغم أن روح تلك المدرسة لا تزال حاضرة في وجدانه.
الفنان طالب عودة : استراليا اضافت لي لغة بصرية أكثر تنوعا
وعن تأثير الغربة على تجربته، أوضح صبحي أن "وجوده في أستراليا لم يُلغِ العراق من أعماله"، بل أضاف إلى أدواته "لغة بصرية أكثر تنوعا".
وأشار إلى أن العمل داخل بيئة متنوعة ثقافيا، حيث يلتقي بالفنان الهندي والصيني والعراقي والأمريكي، ساعده على بناء "وحدة موضوعية واختيار مواضيع تعبّر عن الإنسان بمعزل عن الجغرافيا".
وأكد صبحي أن "الفنان حين يغترب يقترب من ذاته أكثر". وقال إن التشكيلي لا يستطيع أن يقدّم شيئا حقيقيا ما لم يكن منتميا إلى نفسه.
واستعاد عبارة لطالما رافقته ومفادها "أن ترسم لذاتك لتكون فنانا"، مبينا أن "الرسم بالنسبة له ليس فقط تقنية، بل فعل تربوي أيضا حين يتحوّل الفنان إلى معلم أو مرشد".
الفنان طالب عودة : هناك أشياء لا تُقال بالكلمات بل بالفرشاة
وسلّط صبحي الضوء على العلاقة بين الصمت واللون، مشيرا إلى أن "هناك أشياء لا تُقال بالكلمات، بل تُقال بالفرشاة".
وأوضح أن حديثه عن ذاته، وعن طبيعة تجربته في الهجرة والحنين، يخرج غالبا على شكل خط ولون، لا جملة أو خطاب.

جانب من بوابة عشتار .. طالب عودة يُعيد تجسيد إرث بابل على أرض كوينزلاند
واستعاد تجربته في إنجاز مجسم ضخم لبوابة عشتار بطلب من الجالية العراقية المسيحية في كوينزلاند، واعتبر أن اختيار هذا الرمز الحضاري كان موفقا لأنه يشكل بوابة روحية وثقافية نحو العيش في أستراليا.

لوحة مواطن عراقي .. مرآة التشظي في زمن الاختناق
ومضى الى القول "كل ذلك دفع الفنانين إلى البحث عن وسيلة للتعبير عن الاختناق الداخلي".
وأشار إلى أن "اللوحة كانت مرآة لتشظي الذات تحت ضغط المعيشة والفكر".
وفيما يتعلق بلوحة "الأسماك والصحف القديمة"، أوضح الفنان التشكيلي طالب صبحي عودة أنه ينجذب إلى رمزية الأسماك بسبب حياتها القصيرة، وكونها كائنات لا تمتلك وطنا ثابتا.
ولفت إلى أن هذا الترحال المستمر يذكّره بتجربة الغربة، مؤكدا أن الهجرة هي أصعب ما يمر به الإنسان، كما هي بالنسبة للأسماك.
وقال عودة إنه يواصل مشاركاته في المعارض الفنية بأستراليا، وذكر أنه شارك منذ وصوله في معارض نظّمتها نقابة الفنانين في كولد كوست، فيما يستعد حاليا لتنظيم معارض في سيدني والعاصمة الثقافية ملبورن .

وجوه في العتمة... لوحات طالب عودة تلفت الأنظار في معرض كولد كوست
وعن أسلوبه حين يرسم، قال صبحي إنه يرسم عندما يشتاق، أو حين يصرخ بصمت، أو حين تحضر بغداد في الذاكرة. وأوضح أنه يعتمد الواقعية السحرية أحيانًا، والتعبيرية أحيانًا أخرى، لكن العنصر الثابت هو العزلة، التي يعتبرها مصدره الأول للإلهام.
وختم التشكيلي العراقي طالب صبحي عودة بالقول إن بغداد لم تغب عن أعماله أبدًا، حتى وإن لم يذكرها بالاسم. وقال "قلبي في بغداد، وعقلي في أستراليا".
ولفت إلى أنه يُدخل اللون العراقي في تفاصيل أعماله، من السجادة إلى الملابس، في محاولة لجمع الثقافتين داخل إطار واحد يُشبهه، ويشبه رحلته وقال "المشاهد كثيرة لكن الموضوع واحد".
يمكنكم الاستماع للتقرير في التدوين الصوتي أعلاه.