في عالمٍ تتقاطع فيه الموسيقى مع الذاكرة، وتجتمع فيه الحكايات مع الألحان، يبرز الموسيقي الفلسطيني يوسف الريماوي بوصفه واحدًا من الأصوات العربية التي أعادت صياغة الطرب في سياق جديد تمامًا: أستراليا. ليس بوصفه ناقلًا للتراث فحسب، بل كصانع رؤية موسيقية تمزج بين الجذور والحداثة، وبين الذاكرة والبحث المستمر عن المعنى.
الريماوي، الذي استضافته الإعلامية سناء وهيب عبر SBS عربي، قدّم خلال الحوار رحلة شخصية وفنية تتجاوز حدود الموسيقى لتلامس معنى الهوية، والمنفى، ودور الفن في تشكيل سردية جديدة للعرب في أستراليا.
بين الهندسة والموسيقى… هوية تتشكل من التراكم
ولد يوسف الريماوي في الأردن لعائلة فلسطينية هجّرتها نكبة 1948. عاش طفولته في السعودية، ودرس الهندسة الكيميائية في الأردن قبل أن يعود للعمل في السعودية، ثم يشدّ الرحال إلى أستراليا لإكمال الدراسات العليا في مجال إدارة الأعمال.
ورغم هذا المسار البعيد عن الموسيقى، فإن اهتمامه الفني لم يكن طارئًا؛ فقد كان والده شاعرًا ومؤرخًا، ما زرع فيه حب اللغة، أما الموسيقى فدخلت حياته منذ سن السادسة عشرة، حين بدأ العزف سماعيًا على الأورغ. تنقلت أذنه بين الإذاعات العربية في الأردن، وسوريا، والخليج، فصارت ذائقته مزيجًا واسعًا من المقامات والألوان.
الهندسة لم تكن عائقًا أمام الفن، بل أداة لصقل طريقة تفكيره. يوضح الريماوي أن المنطق الهندسي ساعده حتى في تدريسه اللغة العربية في جامعة ميلبورن، قبل أن يقوده هذا المسار تدريجيًا نحو العمل المجتمعي ثم الموسيقى.
من “جفرة” إلى “طرب”… أوركسترا عربية في ملبورن
بدأ الريماوي خطواته الموسيقية في أستراليا عام 2009 حين أسس مع عازفين أستراليين تريو موسيقيًا يقدم ألحانًا عربية بآلات غربية. لاحقًا، وعندما لاحظ وجود فراغ في مجال الموسيقى العربية غير الغنائية والكلاسيكية في ملبورن، ولدت فكرة إنشاء فرقة “طرب – Tarab Ensemble” عام 2019.
تضم الفرقة اليوم موسيقيين من خلفيات متعددة: عرب، أستراليون، أرمن، وإيرانيون. يعكس هذا التنوع فلسفة الريماوي:
الموسيقى العربية ليست أحادية، بل طيف واسع من الألوان الثقافية والعرقية واللغوية.
تعزف الفرقة أعمالًا تمتد من القدود الحلبية إلى الطرب المصري، ومن التراث المغربي والتونسي إلى الموسيقى الصوفية والأرمنية، بل وتتوسع نحو الموسيقى الموريتانية وألحان الطوارق.
فلسفة المشروع: الفن نافذة لا مرآة ضيقة
يرفض الريماوي معيار “عدد الجالية” في اختيار الأعمال الموسيقية. فالموسيقى بالنسبة له تمثل العالم العربي بشموليته، وليس مجرد جغرافيا مرتبطة بالجالية الأكبر.
ولهذا، فإن اختيار أغانٍ من موريتانيا أو تونس أو اليمن ليس قرارًا تجاريًا، بل تعهد معرفي وجمالي يفتح للجمهور نافذة على عالم عربي ثري يتجاوز الصورة النمطية.
ويؤكد أن حفلات الفرقة أصبحت منصة يعيد من خلالها الجمهور العربي اكتشاف ذكرياته الأولى مع الأغاني، بينما يتعرف المستمع الأسترالي إلى الشرق من باب فني رصين بعيد عن الصور النمطية.
أحد أقوى الأمثلة كان عندما حضرت سيدة أسترالية حفلة الفرقة استجابة لطلب زوجها المريض الذي احتضر بعد يومين فقط. قال إنه أراد أن يسمع حفلتهم الأخيرة لأنه وجد في موسيقاهم معنى يتجاوز الألم.
بالنسبة ليوسف، مثل هذا الموقف يختصر وظيفة الفن:
“الفن هو أول صوت يعلو بعد الكارثة: الغناء، النكتة، المسرح، الترتيلة.”
“في حضرة الغياب”… محمود درويش على المسرح الأسترالي
من أبرز مشاريع الفرقة عملها الموسيقي-القرائي “في حضرة الغياب” المستند إلى نصوص محمود درويش.
الغياب بالنسبة للفلسطينيين ليس فكرة مجردة؛ إنه تجربة يومية مرتبطة بالسجن، التهجير، والاغتيال.
المشروع جمع بين الموسيقى، الشعر، والخط العربي عبر فيديو أهداه للفرقة الخطاط الفلسطيني المقيم في فرنسا أحمد داري، الذي رافق درويش في سنواته الباريسية. هكذا وُلد عمل يجمع الذاكرة الفلسطينية مع الحس الجمالي والفلسفي لدرويش.
رحلات فنية تتجاوز الحدود… تعاونات غير متوقعة
أحد أهم عناصر نجاح “طرب” هو العلاقة مع الجمهور والتعاونات العفوية.
فمن بين الحكايات المؤثرة لقاء الفرقة مع السيدة الأسترالية جو تومسون، التي أحبت الموسيقى العربية من خلالهم، ثم اقترحت على كورال النقابات العمالية الذي تنتمي إليه تقديم عمل فلسطيني تضامني. ومن هنا بدأت شراكة فنية انتهت بحفل مشترك على أحد أكبر مسارح ملبورن عام 2025.
هذه الشراكة لم تكن لتحدث لولا انفتاح الفرقة على التجربة، كما يقول الريماوي:
“الإنسان قد لا يعرف وجهته النهائية، لكنه يجب أن يثق في الرحلة.”
الطوارق والموريتانيون… بحث موسيقي لا يتوقف
تستعد الفرقة اليوم لاستكشاف موسيقى الطوارق، وألحان موريتانيا، وفنون مناطق تمتد من الصحراء الكبرى إلى أقاليم نائية من العالم العربي والأمازيغي.
يقر الريماوي أن هذا المسار لا يزال في بدايته، لكنه يقوم على التعلم والتواصل مع فناني هذه المناطق، خصوصًا المقيمين في أوروبا، الذين يبذلون من وقتهم لمساعدة الفرقة على استيعاب روح هذا الفن.
الختام: الطرب كرحلة اكتشاف للذات وللآخر
مشروع يوسف الريماوي ليس فقط مشروعًا موسيقيًا، بل حركة ثقافية تعيد تعريف حضور العرب في أستراليا، وتعيد وصل الجاليات بتراثها من جهة، وبالعالم العربي الأوسع من جهة أخرى.
الفرقة ليست مشروعًا ربحيًا، كما يؤكد، بل مشروع قيمة ومعرفة ومتعة.
ولهذا، فإن حفلات “طرب” ليست مجرد عروض موسيقية، بل لقاءات إنسانية يتجاور فيها الفلسطيني واللبناني والعراقي مع السوري والمغربي والموريتاني، ويجلس الأسترالي بجانب العربي ليكتشف عالمًا كاملًا من الجمال.


