اكتشاف غيّر فهم التاريخ
ماذا يرى الزائر في بحيرة مونغو اليوم؟


A dramatic sunset at"Mungo National Park" in Western NSW Australia Source: Moment RF / Klae Mcguinness/Getty Images

spk_0
في قلب غرب ولاية نيو ساوث ويلز، بعيدًا عن المدن، وبعيدًا عن أي صوتٍ مألوف، تمتدّ أرضٌ تبدو اليوم صامتةً تمامًا. بحيرة جافة، لا ماء فيها ولا حياة ظاهرة على سطحها. لكن هذه البقعة بالتحديد غيّرت ما نعرفه عن تاريخ الإنسان في أستراليا. إنها بحيرة مونغو. حلقة جديدة من مشوار، معي أنا ريان برهوم.
spk_0
عندما تصل إلى بحيرة مونغو، أول ما يلفتك هو الفراغ. مساحة شاسعة من الأرض المتشققة، أرض بيضاء مائلة إلى الصفرة، وكثبان رملية تُعرف باسم لونيتس تحيط بالمكان كجدارٍ طبيعي. اليوم لا ترى سوى بحيرة جافة داخل منتزه مونغو الوطني، وهي جزء من منطقة أكبر تُعرف باسم إقليم بحيرات ويلاندرا.
spk_0
لكن قبل عشرات آلاف السنين، كانت هذه البحيرة مليئة بالمياه، نظامًا مائيًا ضخمًا تعيش حوله مجموعات بشرية مستقرة، تصطاد وتجمع الغذاء، وتدفن موتاها بطقوس لم يكن أحد يعتقد أنها وُجدت في هذا الزمن المبكر.
spk_0
في أواخر ستينيات القرن الماضي، وأثناء مسحٍ أثري في المنطقة، عُثر على بقايا بشرية لم يتوقّعها أحد. أولًا، تم اكتشاف رفات امرأة دُفنت بعد حرقٍ طقوسي، وهو ما يُعرف اليوم باسم مونغو ليدي. بعدها بسنوات، عُثر على رفات رجل دُفن بطريقة منظّمة، ممدّدًا ومغطّى بمسحوقٍ أحمر، وهو مونغو مان.
spk_0
الفحوصات العلمية أكدت أن عمر هذه الرفات يعود إلى أكثر من أربعين ألف سنة، وبعض التقديرات تضعه بين أربعين واثنتين وأربعين ألف عام.
spk_0
وهنا كانت الصدمة العلمية.
spk_0
في ذلك الزمن، لم تكن مونغو صحراء. كانت بحيرة عذبة تحيط بها النباتات، وتعيش فيها الأسماك والطيور. الناس الذين عاشوا هناك لم يكونوا عابرين، بل مجتمعًا مستقرًا نسبيًا. استخدموا أدوات حجرية، صنعوا شِباك صيد، واعتمدوا على موارد البحيرة بشكل موسمي ومنظّم.
spk_0
الأهم من ذلك أن طقوس الدفن المكتشفة تُعدّ من أقدم الأدلة المعروفة في العالم على الممارسات الجنائزية المنظّمة. لكن بحيرة مونغو لم تبقَ كما كانت. مع تغيّر المناخ العالمي، بدأت المياه تنحسر تدريجيًا، وطال الجفاف المنطقة، وتحولت البحيرة شيئًا فشيئًا إلى ما نراه اليوم.
spk_0
الكثبان البيضاء المحيطة بالمكان، المعروفة باسم وولز أوف تشاينا، تشكّلت نتيجة تعرية الرياح للتربة عبر آلاف السنين. هذه التكوينات الجيولوجية تحمل في طبقاتها سجلات طبيعية دقيقة عن تغيّر المناخ، وتحول البيئة، وحياة الإنسان في هذه المنطقة.
spk_0
زيارة بحيرة مونغو اليوم ليست رحلة سريعة للتصوير والمغادرة، بل تجربة تُبنى على التمهّل وعلى احترام المكان قبل استكشافه. تبدأ الزيارة عادة من مركز زوّار مونغو، حيث يحصل الزائر على معلومات أساسية عن الموقع، ويُطلب منه الاطلاع على قواعد الحركة داخل المنتزه، لأن هذه الأرض ليست فقط موقعًا طبيعيًا، بل موقعًا ثقافيًا حيًا بالنسبة لأبناء المنطقة من السكان الأصليين.
spk_0
بعد ذلك، يسلك الزائر مسارًا دائريًا بطول يقارب سبعين كيلومترًا يلتف حول البحيرة الجافة، ويمكن قطعه بالسيارة العادية في الطقس الجاف، مع التوقف عند نقاط مشاهدة محدّدة ومعتمدة. أولى المحطات تكون غالبًا عند وولز أوف تشاينا، وهي الكثبان الرملية البيضاء التي تشكّلت عبر آلاف السنين.
spk_0
هنا لا يُسمح بالتجوّل الحر، بل بالسير فقط على مسارات قصيرة محدّدة، لأن التربة هشّة للغاية، وأي أثر قدم قد يبقى ظاهرًا لعشرات السنين. ومع التقدّم في الطريق، تنفتح المساحة أمامك على امتداد البحيرة الجافة، حيث يمكن رؤية الطبقات الرسوبية بوضوح، وهي طبقات يستخدمها العلماء لقراءة تاريخ المناخ ومعرفة متى امتلأت البحيرة بالمياه ومتى بدأت بالجفاف.
spk_0
خلال النهار، يمكن التوقف في نقاط مظلّلة مخصّصة للراحة، والاطلاع على لوحات تفسيرية تشرح كيف عاش الناس هنا، ماذا كانوا يصطادون، وكيف استخدموا الموارد الموسمية دون استنزافها. ومع اقتراب الغروب، يتجه الزوّار عادة إلى نقاط مشاهدة مرتفعة قليلًا، حيث يتغيّر لون الأرض تدريجيًا من الأبيض إلى الذهبي، ثم الوردي، ثم الرمادي الداكن.
spk_0
في مشهد يُعدّ من أكثر مشاهد الغروب تفرّدًا في أستراليا، بهدوئه الكامل ومن دون ازدحام أو ضجيج سياحي. بحيرة مونغو ليست موقعًا سياحيًا تقليديًا، ولهذا تُفرض فيها قوانين صارمة تهدف إلى الحماية لا المنع. أولًا، يُمنع السير خارج المسارات المحدّدة، وخصوصًا فوق الكثبان الرملية، لأنها تحتوي على مواد أثرية غير مرئية للعين. ثانيًا، يُمنع لمس أو نقل أي حجر أو بقايا.
spk_0
ولو بدت عادية أو غير مهمّة، فالكثير من الاكتشافات السابقة بدأت بقطع صغيرة ظنّها الناس بلا قيمة. ثالثًا، التخييم مسموح فقط في مناطق مخصّصة، ولا يُسمح بإشعال النار خارجها بسبب طبيعة الأرض الجافة وسرعة انتشار الحرائق. أمّا بالنسبة للزيارات الإرشادية، فهي تُعدّ من أهم عناصر تجربة مونغو، إذ تُنظَّم جولات يقودها مرشدون من أبناء السكان الأصليين يشرحون.
spk_0
تاريخ المكان من منظور ثقافي حي، ويربطون الاكتشافات العلمية بالذاكرة الشفوية المتوارثة. هذه الجولات لا تقدّم معلومات فقط، بل تُعلّم الزائر كيف ينظر إلى الأرض ككائن حي له قصة، وليس مجرد مساحة مفتوحة. ولهذا السبب تُصنّف بحيرة مونغو ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، ليس بسبب جمالها فقط، بل لأنها تجمع بين الطبيعة والعلم والثقافة في موقع واحد.
spk_0
وأنت تغادر بحيرة مونغو، قد تشعر أنك لم ترَ شيئًا مذهلًا بالمعنى التقليدي. لا مبانٍ، ولا آثار حجرية ضخمة، ولا معالم سياحية لافتة. لكن ما رأيته أعمق من ذلك بكثير. رأيت مكانًا سبق التاريخ المكتوب، وسبق المدن، وسبق الخرائط. كان هذا مشوارنا إلى ليك مونغو.