مشوار إلى بحيرة مونغو.. أقدم أثر للإنسان على الأرض الأسترالية

Mungo at sunset

A dramatic sunset at"Mungo National Park" in Western NSW Australia Source: Moment RF / Klae Mcguinness/Getty Images

في قلب غرب ولاية نيو ساوث ويلز، وعلى مسافة بعيدة من المدن والطرق الرئيسية، تقع بحيرة مونغو (Lake Mungo)، إحدى أكثر المواقع الأثرية والطبيعية أهمية في أستراليا.


للاستماع إلى أحدث التقارير الصوتية والبودكاست، اضغطوا على الرابط التالي.

بحيرة جافة اليوم، لكنها لعبت دورًا محوريًا في إعادة كتابة تاريخ الاستيطان البشري في القارة، وأصبحت وجهة سياحية فريدة تجمع بين الطبيعة، والعلوم، واحترام الإرث الثقافي العميق.
بحيرة مونغو هي جزء من منطقة Willandra Lakes Region المدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو. وعلى الرغم من أنها تبدو اليوم أرضًا جافة ومتشققّة، إلا أنها كانت قبل عشرات آلاف السنين بحيرة عذبة مزدهرة، عاش حولها البشر بشكل مستقر نسبيًا، معتمدين على الصيد وجمع الغذاء.


الملامح الأكثر لفتًا للنظر في الموقع هي الكثبان الرملية البيضاء المعروفة باسم Walls of China، وهي تشكيلات جيولوجية تشكّلت بفعل التعرية عبر آلاف السنين، وتكشف طبقاتها عن سجلّ طبيعي دقيق لتغيّر المناخ والبيئة في أستراليا.

اكتشاف غيّر فهم التاريخ

في أواخر ستينيات القرن الماضي، قاد مسح أثري في المنطقة إلى واحد من أهم الاكتشافات العلمية في تاريخ أستراليا. فقد عُثر على رفات بشرية تعود إلى أكثر من 40 ألف سنة، أبرزها ما يُعرف اليوم باسم Mungo Lady وMungo Man.

أهمية هذه الاكتشافات لا تكمن فقط في قِدمها، بل في الطريقة التي دُفن بها أصحابها. إذ أظهرت الأدلة وجود طقوس دفن منظمة، من بينها الحرق الطقوسي واستخدام المغرة الحمراء، ما يشير إلى وعي اجتماعي وروحي متقدّم لدى المجتمعات البشرية الأولى في القارة.

هذه النتائج دفعت علماء الآثار إلى إعادة النظر في تاريخ الاستيطان البشري في أستراليا، وأكدت الارتباط العميق والمستمر للسكان الأصليين بالأرض منذ عشرات آلاف السنين.

ماذا يرى الزائر في بحيرة مونغو اليوم؟

زيارة بحيرة مونغو اليوم تختلف عن زيارة المواقع السياحية التقليدية. فهي تجربة تعتمد على الهدوء، والتأمل، واحترام المكان. تبدأ الزيارة عادة من Mungo Visitor Centre، حيث يحصل الزوار على معلومات أساسية حول الموقع، وتاريخ المنطقة، وقواعد الحركة داخل المنتزه.
Lake Mungo
Lake Mungo Credit: Jason Kelly
من هناك، يمكن اتباع مسار دائري يلتف حول البحيرة الجافة، مع التوقف عند نقاط مشاهدة معتمدة. أبرز هذه النقاط هي Walls of China، حيث يُسمح بالمشي القصير فوق منصات محددة دون لمس التربة أو الخروج عن المسارات.

تنتشر على طول الطريق لوحات تفسيرية تشرح التحولات الجيولوجية والمناخية التي شهدتها المنطقة، إضافة إلى معلومات عن الحياة البشرية القديمة التي ازدهرت حول البحيرة عندما كانت مليئة بالمياه.

الغروب… تجربة لا تُنسى

يُعد وقت الغروب من أكثر اللحظات تميّزًا في بحيرة مونغو. عندها تتغيّر ألوان الأرض والسماء تدريجيًا، وتعكس الكثبان الرملية ألوانًا دافئة تتدرج بين الأبيض والذهبي والبرتقالي، في مشهد هادئ يندر وجوده في أماكن أخرى من أستراليا.

قوانين صارمة لحماية الموقع

نظرًا للقيمة الأثرية والثقافية الكبيرة للمكان، تُفرض في بحيرة مونغو قوانين صارمة. يُمنع الخروج عن المسارات المحددة، كما يُحظر لمس أو نقل أي مواد طبيعية أو أثرية. وتتوفر جولات إرشادية يقودها مرشدون من أبناء السكان الأصليين، تقدّم شرحًا ثقافيًا أعمق حول أهمية الموقع ومعناه.
للاستماع إلى أحدث التقارير الصوتية والبودكاست، اضغط على الرابط التالي.

أكملوا الحوار على حساباتنا على فيسبوك SBSArabic24 ومنصة X وانستغرام.

اشتركوا في قناة SBS Arabic على يوتيوب لتشاهدوا أحدث القصص والأخبار الأسترالية.

spk_0

في قلب غرب ولاية نيو ساوث ويلز، بعيدًا عن المدن، وبعيدًا عن أي صوتٍ مألوف، تمتدّ أرضٌ تبدو اليوم صامتةً تمامًا. بحيرة جافة، لا ماء فيها ولا حياة ظاهرة على سطحها. لكن هذه البقعة بالتحديد غيّرت ما نعرفه عن تاريخ الإنسان في أستراليا. إنها بحيرة مونغو. حلقة جديدة من مشوار، معي أنا ريان برهوم.

spk_0

عندما تصل إلى بحيرة مونغو، أول ما يلفتك هو الفراغ. مساحة شاسعة من الأرض المتشققة، أرض بيضاء مائلة إلى الصفرة، وكثبان رملية تُعرف باسم لونيتس تحيط بالمكان كجدارٍ طبيعي. اليوم لا ترى سوى بحيرة جافة داخل منتزه مونغو الوطني، وهي جزء من منطقة أكبر تُعرف باسم إقليم بحيرات ويلاندرا.

spk_0

لكن قبل عشرات آلاف السنين، كانت هذه البحيرة مليئة بالمياه، نظامًا مائيًا ضخمًا تعيش حوله مجموعات بشرية مستقرة، تصطاد وتجمع الغذاء، وتدفن موتاها بطقوس لم يكن أحد يعتقد أنها وُجدت في هذا الزمن المبكر.

spk_0

في أواخر ستينيات القرن الماضي، وأثناء مسحٍ أثري في المنطقة، عُثر على بقايا بشرية لم يتوقّعها أحد. أولًا، تم اكتشاف رفات امرأة دُفنت بعد حرقٍ طقوسي، وهو ما يُعرف اليوم باسم مونغو ليدي. بعدها بسنوات، عُثر على رفات رجل دُفن بطريقة منظّمة، ممدّدًا ومغطّى بمسحوقٍ أحمر، وهو مونغو مان.

spk_0

الفحوصات العلمية أكدت أن عمر هذه الرفات يعود إلى أكثر من أربعين ألف سنة، وبعض التقديرات تضعه بين أربعين واثنتين وأربعين ألف عام.

spk_0

وهنا كانت الصدمة العلمية.

spk_0

في ذلك الزمن، لم تكن مونغو صحراء. كانت بحيرة عذبة تحيط بها النباتات، وتعيش فيها الأسماك والطيور. الناس الذين عاشوا هناك لم يكونوا عابرين، بل مجتمعًا مستقرًا نسبيًا. استخدموا أدوات حجرية، صنعوا شِباك صيد، واعتمدوا على موارد البحيرة بشكل موسمي ومنظّم.

spk_0

الأهم من ذلك أن طقوس الدفن المكتشفة تُعدّ من أقدم الأدلة المعروفة في العالم على الممارسات الجنائزية المنظّمة. لكن بحيرة مونغو لم تبقَ كما كانت. مع تغيّر المناخ العالمي، بدأت المياه تنحسر تدريجيًا، وطال الجفاف المنطقة، وتحولت البحيرة شيئًا فشيئًا إلى ما نراه اليوم.

spk_0

الكثبان البيضاء المحيطة بالمكان، المعروفة باسم وولز أوف تشاينا، تشكّلت نتيجة تعرية الرياح للتربة عبر آلاف السنين. هذه التكوينات الجيولوجية تحمل في طبقاتها سجلات طبيعية دقيقة عن تغيّر المناخ، وتحول البيئة، وحياة الإنسان في هذه المنطقة.

spk_0

زيارة بحيرة مونغو اليوم ليست رحلة سريعة للتصوير والمغادرة، بل تجربة تُبنى على التمهّل وعلى احترام المكان قبل استكشافه. تبدأ الزيارة عادة من مركز زوّار مونغو، حيث يحصل الزائر على معلومات أساسية عن الموقع، ويُطلب منه الاطلاع على قواعد الحركة داخل المنتزه، لأن هذه الأرض ليست فقط موقعًا طبيعيًا، بل موقعًا ثقافيًا حيًا بالنسبة لأبناء المنطقة من السكان الأصليين.

spk_0

بعد ذلك، يسلك الزائر مسارًا دائريًا بطول يقارب سبعين كيلومترًا يلتف حول البحيرة الجافة، ويمكن قطعه بالسيارة العادية في الطقس الجاف، مع التوقف عند نقاط مشاهدة محدّدة ومعتمدة. أولى المحطات تكون غالبًا عند وولز أوف تشاينا، وهي الكثبان الرملية البيضاء التي تشكّلت عبر آلاف السنين.

spk_0

هنا لا يُسمح بالتجوّل الحر، بل بالسير فقط على مسارات قصيرة محدّدة، لأن التربة هشّة للغاية، وأي أثر قدم قد يبقى ظاهرًا لعشرات السنين. ومع التقدّم في الطريق، تنفتح المساحة أمامك على امتداد البحيرة الجافة، حيث يمكن رؤية الطبقات الرسوبية بوضوح، وهي طبقات يستخدمها العلماء لقراءة تاريخ المناخ ومعرفة متى امتلأت البحيرة بالمياه ومتى بدأت بالجفاف.

spk_0

خلال النهار، يمكن التوقف في نقاط مظلّلة مخصّصة للراحة، والاطلاع على لوحات تفسيرية تشرح كيف عاش الناس هنا، ماذا كانوا يصطادون، وكيف استخدموا الموارد الموسمية دون استنزافها. ومع اقتراب الغروب، يتجه الزوّار عادة إلى نقاط مشاهدة مرتفعة قليلًا، حيث يتغيّر لون الأرض تدريجيًا من الأبيض إلى الذهبي، ثم الوردي، ثم الرمادي الداكن.

spk_0

في مشهد يُعدّ من أكثر مشاهد الغروب تفرّدًا في أستراليا، بهدوئه الكامل ومن دون ازدحام أو ضجيج سياحي. بحيرة مونغو ليست موقعًا سياحيًا تقليديًا، ولهذا تُفرض فيها قوانين صارمة تهدف إلى الحماية لا المنع. أولًا، يُمنع السير خارج المسارات المحدّدة، وخصوصًا فوق الكثبان الرملية، لأنها تحتوي على مواد أثرية غير مرئية للعين. ثانيًا، يُمنع لمس أو نقل أي حجر أو بقايا.

spk_0

ولو بدت عادية أو غير مهمّة، فالكثير من الاكتشافات السابقة بدأت بقطع صغيرة ظنّها الناس بلا قيمة. ثالثًا، التخييم مسموح فقط في مناطق مخصّصة، ولا يُسمح بإشعال النار خارجها بسبب طبيعة الأرض الجافة وسرعة انتشار الحرائق. أمّا بالنسبة للزيارات الإرشادية، فهي تُعدّ من أهم عناصر تجربة مونغو، إذ تُنظَّم جولات يقودها مرشدون من أبناء السكان الأصليين يشرحون.

spk_0

تاريخ المكان من منظور ثقافي حي، ويربطون الاكتشافات العلمية بالذاكرة الشفوية المتوارثة. هذه الجولات لا تقدّم معلومات فقط، بل تُعلّم الزائر كيف ينظر إلى الأرض ككائن حي له قصة، وليس مجرد مساحة مفتوحة. ولهذا السبب تُصنّف بحيرة مونغو ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، ليس بسبب جمالها فقط، بل لأنها تجمع بين الطبيعة والعلم والثقافة في موقع واحد.

spk_0

وأنت تغادر بحيرة مونغو، قد تشعر أنك لم ترَ شيئًا مذهلًا بالمعنى التقليدي. لا مبانٍ، ولا آثار حجرية ضخمة، ولا معالم سياحية لافتة. لكن ما رأيته أعمق من ذلك بكثير. رأيت مكانًا سبق التاريخ المكتوب، وسبق المدن، وسبق الخرائط. كان هذا مشوارنا إلى ليك مونغو.

END OF TRANSCRIPT

شارك

تحديثات بالبريد الإلكتروني من أس بي أس عربي

.سجل بريدك الإلكتروني الآن لتصلك الأخبار من أس بي أس عربي باللغة العربية

باشتراكك في هذه الخدمة، أنت توافق على شروط الخدمة وسياسة الخصوصية الخاصة بـ "SBS" بما في ذلك تلقي تحديثات عبر البريد الإلكتروني من SBS

Download our apps
SBS Audio
SBS On Demand

Listen to our podcasts
Independent news and stories connecting you to life in Australia and Arabic-speaking Australians.
Personal journeys of Arab-Australian migrants.
Get the latest with our exclusive in-language podcasts on your favourite podcast apps.

Watch on SBS
Arabic Collection

Arabic Collection

Watch SBS On Demand