فرض "أسبوع التوعية بالوحدة" هذا العام اسئلة جوهرية في زمن تتسارع فيه العزلة وتتراجع فيه اللقاءات وابرز تلك الاسئلة "كيف ينجو الإنسان من شعور الانفصال القاسي؟" وكيف يعيد بناء الجسور بعد أن تتهدّم بفعل الغربة أو الفقد أو التفكك العائلي؟
عن مواجهة الوحدة تحدث لـ"أس بي أس عربي" الكُتبيّ والشخصية الثقافية المعروفة في استراليا صباح برخو عن تجربته مع الوحدة وكيف حوّل غربته إلى مكتبة، والحنين إلى حوار دائم، وفيما اكد انه عمل على ترويض الوحدة التي حاصرته فأنه رأى بان قوانين استراليا شجعت على تفتيت الأسرة مسلطا الضوء على تجربته.
وقال برخو إن الكتب لم تكن يوما عنده سلعة، بل أصدقاء. وأضاف "أنا لم أنشئ مكتبة، بل غزلت من الكتب وطنا صغيرا، وطنا عطرته بالذكريات، وعمّدته بالشغف والحنين والوجد".
وأوضح أن الكتب في نظره تبني الجسور بدل أن تُباع، وتخلق مجتمعات بديلة في قلب الغربة، وتعيد تشكيل "نحن" المفتقدة.
وأكد برخو أنه حين اقتربت الوحدة من ضفافه، وجد الشيفرة التي يطوّقها بها وذلك بالصداقات، والحوار، والانتماء إلى الجماعة .
واستذكر برخو اللحظة الأولى التي شعر بها بالوحدة، وقال إنها بدأت منذ ان غادر الوطن الأم بلا عودة ، ماضيا الى القول "شعرت بوحدة قاتلة، ووصلت حدّ البكاء المستمر والحزن العميق، أجبرت نفسي على التأقلم، لكن الحنين كان يقودني إلى العراق مرة تلو الأخرى"، واشار إلى أنه حطم رقما قياسيا في زيارة العراق بعد ان عاد لزيارته أكثر من 15 مرة خلال 20 عاما.
وعن علاقته بالكتب، أوضح أنها كانت جسرا نحو "الطيبين الذين ما زال يسكنهم شغف الوطنية والإنسانية والقيم والروابط"، وبديلا عن "الذين تغيّروا وأصبح الاستمرار معهم مرهقا ومؤلما"، على حد تعبيره.
وفي معرض حديثه عن الوحدة والزواج، أشار برخو إلى أن الشعور بالوحدة تضاعف حين تهاوت علاقته الزوجية، رغم بدايتها الجميلة.
وقال "ان تجربة الزواج كانت تبدو جميلة في البداية ولم أكن أعرف ما يخبّئه القدر" مضيفا ان "مشكلتي وهي مشكلة عامة تكمن في تدخل الاخرين والأهل وهنا تكمن الازمة الاعمق التي اسهمت في تقويض الحياة الزوجية حين حول التدخل علاقة احد اطراف الحياة الزوجية الى عبودية للاخرين".
ورأى أن المجتمعات المهاجرة أكثر عرضة للتفكك، وأن الوحدة في الشتات ليست مجرد حالة شخصية، بل ظاهرة تغذيها قوانين وأنماط حياة وتبدلات ثقافية.
وأضاف "ان عملية الزواج في أصلها هي فك ارتباط من عائلة قديمة لتشكل عائلة جديدة ، لكن المشكلة لدى البعض هي انه لا يستطيع أن يغادر تلك العائلة ولا يستطيع أن يفك الارتباط لأسباب كثيرة، هذا كان السبب الرئيسي لتدمير هذا الزواج وعززه وأذكاه قوانين هذه الدولة".
صباح برخو : قوانين استراليا اسهمت في تفتيت الأسرة والنواة الاولى للعقد الاجتماعي للانسانية
واشار الى ان "تلك القوانين لم تفهمها للأسف الشديد المرأة القادمة من المهجر" ، ومضى الى القول " أرى ان تلك القوانين لا تدافع عن المرأة بقدر ما هي تفتيت للعائلة وتفتيت النواة الاولى للعقد الاجتماعي للانسانية".
وأوضح أن "الوحدة الموجودة عند المجتمعات المهاجرة لها أسباب عدة ، والسبب الأكبر فيها قادم من فسخ الزيجات وتفتيت العائلة لاسباب عديدة كانت مغطاة في الوطن الأم لعوامل عدة، ولكن هنا بدأت تخرج الى السطح واذكتها القوانين هنا، وتجربتي تشبه تجارب العديد من المغتربين العراقيين وغير العراقيين".
وكشف برخو أن الانفصال النهائي لزواجه تم بعد 27 عاما من الزواج، وقال"انتهى كل شيء بعد رحلة طويلة، وأنجبنا خمسة أبناء، لكن الوحدة التي أعقبت الانفصال كانت شرسة".
صباح برخو ليس فقط كُتبياً وشخصية ثقافية معروفة في ملبورن واستراليا ، بل إنسانٌ خاض معركته مع الوحدة وحوّل الغربة إلى مكتبة، والحنين إلى حوار دائم. ويوم قدم من العراق في العام 2006، لم يحمل معه ذكرياته فقط، بل نقل مكتبته، كتاباً بعد كتاب، حتى أنشأ في بيته مكتبةً تضم أكثر من 12 ألف عنوان، لا تبيع الكتب فقط، بل تبني جسوراً بين أبناء الجالية وثقافتهم واصبح هو قطبها .
وتحدث برخو عن تجربته في بناء الصداقات، موضحا أنه منذ أيامه في العراق، كان وجها اجتماعيا، معروفا في الأوساط الأدبية والطلابية ، وأنه في أستراليا أعاد نسج هذه الشبكة من جديد.
وقال " وجدت العديد من الأصدقاء هنا ، بدأوا يزورون مكتبتي يوميا وهذه العلاقات أعادت التوازن لحياتي".
برخو : الوحدة والغربة والمرض ثلاثية مدمرة واصدقائي بلسم يومي
وربط برخو بين الوحدة والغربة والمرض، واصفا إياها بـ"الثلاثية المدمّرة".
ورأى انه لو كانت الوحدة وحدها، لعالجناها بالقراءة أو التواصل. لكن حين ترافقها الغربة والمرض، تصبح معركة يومية.
وأشار إلى أنه قاوم هذه الثلاثية بما لديه من خلفية فكرية، وبمساعدة أصدقائه الذين وصفهم بأنهم "بلسم يومي".
وعن سؤاله ما إذا كان قد انتصر على الوحدة، قال برخو بصدق " إذا قلت انتصرت عليها لن اكون صادقا ، لكنني جزئيا انتصرت عليها وجزئيا روّضتها وجزئيا تصالحت معها وجزئيا أيضا للوحدة بعض المنافع".
وتابع قائلا " أحيانا تحاصرني، وأحيانا أروّضها، وأحيانا أصادقها ، تعلّمت أن أحوّل وحدتي إلى خلوة للتأمل، شرط ألا تستحيل عزلة خانقة".
وأوضح أن "الوحدة ليست دائما سلبية"، بل يمكن أن تكون "نافذة نحو الذات"، شرط أن لا تتحوّل إلى شعور بالانفصال التام عن العالم.
صباح برخو : الانسان كائن اجتماعي والمصير المشترك حاجة غريزية تتعلق بالأمان والاستمرار
أما عن فكرة "المصير المشترك"، فبيّن برخو أنها "ليست شعارا فكريا فقط، بل حاجة غريزية تتعلق بالأمان والاستمرار"، وقال: "الإنسان كائن اجتماعي. أدرك منذ البدء أن الحياة الجماعية تحميه وتمنحه البقاء ولهذا، لا أرى نفسي إلا جزءا من نحن ولا ادرك ذاتي الا من خلال الاخرين".
يمكنكم الاستماع للتقرير في التدوين الصوتي أعلاه.