خمسة عشر عامًا مضت منذ وُلد مشروع «ميراث في البال» من فكرة بسيطة حملتها الإعلامية والكاتبة شادية حجار، فكرة أرادت من خلالها أن تعيد وصل الأجيال العربية في المهجر بجذورها وثقافتها، وأن تجعل من الموسيقى والغناء والتراث مساحة حيّة تنبض بالحياة وتُعيد للغة العربية حضورها البهيّ بين الأطفال والشباب.
منذ تلك اللحظة الأولى، لم تكن «ميراث في البال» مجرد دروس موسيقية، بل كانت رؤية شاملة تؤمن بأن التراث ليس مجرد ماضٍ يُروى، بل «حياة تنتقل من جيل إلى جيل» – كما تقول شادية حجار – وبأن الحفاظ على الهوية يبدأ من غرس اللغة، اللحن، والقصة في ذاكرة الطفل منذ صغره.

انبثاق الفكرة… حين يتحول الشغف إلى مشروع
في حديثها عن لحظة التأسيس، تروي شادية أن الفكرة لم تأتِ فجأة، بل كانت ثمرة سنوات من العمل الإعلامي والاحتكاك بالتراث العربي وموسيقاه الغنية، إلى جانب إدراك عميق لحاجة الجيل الجديد في أستراليا إلى مساحة تعيد ربطهم بلغتهم الأم.
كان الهدف واضحًا: مشروع يحمل الموسيقى والتراث واللغة في قالب واحد، ويقدّمها للأطفال بطريقة جاذبة تزرع فيهم الاعتزاز بهويتهم.
تقول شادية في المقابلة:
وجدتُ أن الحاجة كبيرة وضرورية لإقامة أكاديمية للفنون الشرقية، تمنح الأطفال الحق الكامل في التعلّم والانغماس في هذا التراث الغني الذي نحمله
.

تحدّيات خمسة عشر عامًا… والإصرار أقوى
لم يكن الطريق سهلًا. فالمشروع، الذي بدأ بجهود فردية وإمكانات متواضعة، واجه صعوبات في التمويل، والاستمرارية، وتأمين المساحات، والبحث عن مدرّسين متخصصين يمتلكون القدرة على تدريب الأطفال على الغناء الفصيح ومخارج الحروف.
تقول شادية إن كل عام كان يحمل لحظات تتساءل فيها: هل نستمر؟ هل نأخذ استراحة؟
لكن الذي كان يعيدها دائمًا إلى الميدان هو الأطفال أنفسهم، الذين “يطالبون بالمزيد” كلما تقدّموا خطوة في عالم الموسيقى والغناء.
ورغم الضغوط، ظل المشروع قائمًا على تمارين أسبوعية تمتد لثلاثة أشهر متواصلة، تُصقَل فيها مهارات الطلاب صوتيًا ولغويًا وفنيًا.
من أستراليا إلى لبنان… جذور تمتد وتتجدد
لم يكن البعد الجغرافي عائقًا أمام «ميراث في البال». فقد حملت شادية مجموعات من طلابها إلى لبنان والعالم العربي، ليختبروا التراث في موطنه الأصلي.
هناك، اكتشف الطلاب جذورهم، وتعرّفوا إلى المدارس الموسيقية العربية، ووقفوا على مسارح لبنانية عريقة، بل وغنّى بعضهم للسيدة فيروز وملحم بركات، ولاقى ذلك إعجابًا كبيرًا من الجمهور.
كانت تلك التجارب، كما تصفها شادية،
منعطفات شكّلت وعي الطلاب، وجعلت علاقتهم باللغة العربية أكثر عمقًا وصدقًا
.

تحوّل الأطفال… من الخجل إلى الثقة
تؤكد شادية أن الطفل الذي يدخل إلى المشروع بخجل، يخرج بعد أسابيع قليلة وهو قادر على الغناء أمام جمهور واسع بثقة واعتزاز.
فالهدف الأساسي ليس صناعة نجوم، بل تنمية الحس اللغوي والموسيقي، وغرس الشغف بالتراث في نفوس الأطفال والشباب.
وقد أثمرت سنوات العمل عن مواهب لامعة، بعضها فاز بجوائز ومشاركات فنية، وآخرها مشاركة أحد طلاب المشروع الذي حصل مؤخرًا على لقب «الصوت الذهبي» في إحدى المسابقات.
دور شادية حجار… امرأة تضع حياتها في خدمة مشروعها
رغم محاولتها الابتعاد عن الحديث عن نفسها، تعترف شادية بأنها كرّست جزءًا كبيرًا من مسيرتها المهنية من أجل هذا المشروع، وتخلّت عن وظائف عديدة لتمنحه وقتها وقلبها.
وتقول إنها ترى في «ميراث في البال» ليس عملًا فنيًا فحسب، بل رسالة تتعلّق بالهوية والانتماء واللغة والكرامة.
خطط المستقبل… توسّعٌ فني وثقافي
تستعد «ميراث في البال» اليوم لإطلاق مشاريع جديدة في عامها الخامس عشر، بعضها مع فنانين عرب من لبنان وسوريا والعراق ومصر، بهدف توسيع دائرة الفنون المقدَّمة للطلاب.
كما تخطط شادية لافتتاح مسرح خاص بالمشروع، مجهّز بأحدث التقنيات الصوتية والضوئية، ليكون منصة دائمة لعرض نتاج الطلاب.
خاتمة
«ميراث في البال» ليس مدرسة موسيقية فقط، بل جسر ثقافي بين الجيل الجديد وهويته العربية، مشروع أثبت أن الموسيقى قادرة على أن تكون بيتًا، وطنًا، ولغة مشتركة تجمع القلوب رغم المسافات.
وخلال خمسة عشر عامًا، أثبتت شادية حجار أن الإيمان بالمشروع هو ما يحوّل الفكرة الصغيرة إلى أثرٍ كبير… أثرٍ يبقى في البال، كما بقي «ميراث في البال».




