هناك مسارات يخطّها القدر بقسوة، لكنها لا تُنبت إلا القوة. هذه قصة الشيف اللبناني عزّام، أول لبناني ينال نجمة ميشلان، والذي شقّ طريقه من طرابلس الفقيرة إلى أحد أعلى منصات الطهو في العالم. قصة شاب بدأ حياته عاملًا ينظّف زجاج أبنية شاهقة في فرنسا، قبل أن يصبح اسمه اليوم مرجعًا عالميًا في المطبخ المعاصر.
من غسل الأطباق ليلًا وتنظيف واجهات الأبنية الشاهقة في باريس نهارًا، أصبح الشيف ألان الجعم أحد أشهر الطهاة في العالم ومصدر الهام لمن حكم عليهم بالفشل بسبب ظروف اوطانهم الفاشلة. هو الذي وصل الى فرنسا مع دَين يلامس 22 ألف دولار، دون شهادة جامعية ودون اتقان الفرنسية، بات اول شيف لبناني يحصل على نجمة ميشلان الأولى.
طفولة فقيرة غنيّة
لم يولد عزّام وفي يده امتيازات، لم يرث مالًا ولا فرصًا، لكنه ورث شيئًا أثمن. يقول عن بداياته المؤلمة:
"بكيت كثيرًا، نعم… ولكني لم أكن فاشلًا ولكن كان هناك بعض القهر والكثير من العذاب".
ولد ألان في ليبيريا، وعاد طفلًا إلى مسقط رأسه في طرابلس. هناك اختبر مرارة الفقر والحرب، لكنّه اختبر أيضًا دفء الحب العائلي الذي ظلّ نجمة تقوده في أحلك اللحظات.
يصف تلك السنوات قائلاً:
"كبرت وانا أرى والدتي تطهو وتستقبل العائلة والجيران ووالدي يستيقظ عند الخامسة فجرًا ليذهب الى متجر السمانة في منطقة الزاهرية".
ورغم القهر، وجد في تلك البيئة بذور القوة:
"كبرنا وسط الشدة والقهر والبركة وما وصلتُ اليه اليوم يعود الى طفولتي الصعبة في طرابلس".
"الأوقات الصعبة جعلتني اختار ان استيقظ كل يوم واعمل أكثر لأحقق احلامًا أكبر".
الحرب وذاكرة الخبز والزعتر
هو الذي هرب من الحرب الأهلية في ليبيريا، عاد ليرزح تحت ثقلها في لبنان. لم يختر طفولته، لكنه قرر أن يختار مستقبله.
"لا نختار طفولتنا، لكن نختار ماذا نفعل بما تبقّى منها."
ورغم الفقر، يعانق غنى وبركة تلك الطفولة في مشاهد بقيت محفورة في قلبه:
"كنت أذهب إلى فرن علي العطّار، أحمل الزعتر والزيت، ونصنع المناقيش… هذه كانت لحظات السعادة."
ويتذكر طعام الطفولة:
"القطرميز… مربّى نصنعه في البيت من فائض الفاكهة."
كان البيت صغيرًا، سقفه من حجر وحديده ممسوس بالشتاء، لكن الدفء كان يأتي من مشهد بسيط: رغيف خبز، زيت زيتون، وضحكة.
الهجرة إلى فرنسا: لا لغة ولا أوراق… فقط حلم
حين ضاقت به طرابلس، حمل حقيبته وترَك لبنان وهو في الثانية والعشرين، غامر بلا تأشيرة، فقط ليُثبت لوالده أنه قادر على تحقيق ما يحلم به. وصل فرنسا بلا أوراق إقامة وبلا لغة:
"لم أكن أملك تأشيرة… كان يجب أن أرى المستقبل رغم الخوف."
وعن ذلك المجهول يقول:
"وصلت الى باريس دون لغة، دون شهادة واية معرفة عن الشعب والثقافة وأوقفت عن العمل أكثر من مرة بسبب عائق اللغة وكنت اطلب فرصة واحدة فقط".
هناك، بدأ من الصفر. نهارًا كان ينظف الزجاج في المباني العالية، وليلاً يغسل الأطباق في المطاعم.
يقول الجعم:
"كنت أنظف الأبنية نهارًا وأغسل الصحون ليلاً".
هو الذي لا يؤمن بالحظ بل المثابرة، يؤمن أن المرء لا يمكن تحقيق أي حلم دفعة واحدة وكل ما أراده هو فرصة واحدة. في هذا السياق يقول:
"كنت اعمل احيانًا 16 ساعة في تنظيف زجاج الأبنية في النهار الى غسل الاطباق في الليل"،
كل ما كنت أقوله أعطني فرصة واحدة فقط… أَعِدك
لحظة تغيّر المصير: الورقة على باب المطبخ
بعد ثلاث سنوات من وصوله إلى فرنسا، أصبح أخيرًا يحمل لقب شيف.
وفي عام 2007، افتتح مطعمه الأول داخل منزل مهجور يعود إلى سنة 1407، ووضع أمامه تلك الورقة على مفتاح الضوء كتب عليها هدفه:
سأحصل على نجمة ميشلان
بعد سنوات من العمل، والانكسارات، والورقة الصغيرة المعلقة على مفتاح الضوء، لم يكن يعلم أن النجمة ستأتي في لحظة لا ينتظرها لكنه كتبها بخط يده.
زار أحد مفتّشي دليل ميشلان المطعم كزبون عادي، ليتلقى بعد فترة الاتصال الذي حزّل حامه من الورق الى الواقع، ليسمع بالأذن المجردة:
"تهانينا… لقد حصلت على نجمة ميشلان."
لحظة أعادت ألان الى عزّام، الى بدايات مغمّسة بالدّمع والقهر فلا تعود الدنيا تتسع لمشاعره اذ يقول:
"بكيت كثيرًا… كنت عاجزًا عن الكلام."
لحظة أعادت رسم حياته وأيقظت كل ما ظنّ انه بات من الماضي في لحظة مصالحة مع الذات، عنها يقول:
"وصلت إلى فرنسا خجلًا من اسمي ومن هويتي، وحاولت أن أدفن ماضيي. اليوم، أقول بكل فخر: أنا عزام عبدالله الجعم، انا بكل فخر ابن طرابلس"،
عزّام ما زال يوجعني في داخلي، عندما وصلت فكّرت بأن تغيير اسمي سيمحي ماضيّ
"ما كنت أعلم أنّ طرابلس، والاستيقاظ عند الفجر، ورائحة المناقيش… هي التي ستمنحني المستقبل."
يقف اليوم امام كل نجاحاته بخفر داخلي ليكون هو الفرصة لكل من لم تمنحهم الحياة فرصة قائلًا:
"لا أتكلم عن نجاح… أتكلم عن خطوات أمشي بها إلى الأمام".
يحمل مسؤولية خلق فرص للاغتراب اللبناني في فرنسا ويرفض ان يحوّل الشباب اللبناني أي عائق الا لفرصة اذ يقول:
" هناك من يقول لا احمل شهادة ولا مال ولا خبرة وذلك خطأ، فأنا لم املك ايًّا منها! أؤمن بالمثابرة والصبر".
الى بيروت...
هو الذي يضع العلم اللبناني الى جانب الفرنسي على سترته، يعود اليوم إلى بيروت ليضع بصمته في أحد مشاريع الضيافة الراقية، حاملًا فلسفته:
"كل يوم نصحو لنكون أفضل من الأمس… الماضي دروس، لا ننساه، لكنه لا يقيّدنا."
ويختم قائلًا:
" ابدأ بما لديك، من حيث أنت… بما هو متاح. فالعظمة لا تأتي من الظروف، بل من التصميم".
ماذا يقول ألان الجعم عن لحظة وداع والده بالمستشفى الذي أغمض عينيه وهو يهمس اسم عزّام؟ كيف يستحضر بركة الوالدة التي لا تعترف به كشاف في مطبخها؟ وما الذي سيكشفه عن ألن الزوج والوالد؟
الإجابة في الملف الصوتيّ أعلاه.
هل أعجبكم المقال؟ استمعوا لبرنامج "Good Morning Australia" من الاثنين إلى الجمعة من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحا بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق SBS Audio المتاح مجاناً على أبل و أندرويد وعلى SBS On Demand.



