في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا، ويتغيّر فيه كل شيء من حولنا، يبقى سؤالٌ جميلٌ ومقلق في آنٍ واحد:
هل انتهى زمنُ الكتاب الورقي؟
كيف تحافظ المكتبات على دورها في عصر الذكاء الاصطناعي؟
وما الذي يفعله العربُ في أستراليا والعالم
لحماية لغتهم وثقافتهم من التلاشي في الفضاء الرقمي؟
في هذه الحلقة الخاصة، نحاور أمينة عيتاني — المستشارة الدولية في مجال المكتبات والمعرفة المفتوحة — لنتحدث عن مستقبل القراءة، والكتاب العربي، والمكتبات التي أصبحت اليوم جسورًا بين الماضي والمستقبل.
كثيرًا ما نسمع عن التحول الرقمي في المكتبات. ما المقصود به؟
قالت الأستاذة أمينة عيتاني إن التحول الرقمي هو طريقة جديدة للتعامل مع المعرفة. في الماضي، كنا نذهب إلى المكتبة لنقلب صفحات الكتب الورقية ونبحث يدويًا. أما اليوم، فالمكتبة أصبحت عالمًا مفتوحًا يمكن الوصول إليه من أي مكان، عبر الهاتف أو الحاسوب أو الجهاز اللوحي.
التحول الرقمي لا يعني أن نتخلى عن الورق، بل أن نمنح الكتاب حياة جديدة. الكتاب الإلكتروني هو نسخة رقمية من الكتاب الورقي يمكن قراءتها بسهولة في أي وقت وأي مكان. وما يميّز الرقمي هو السرعة وسهولة الوصول والمشاركة، فكتاب واحد يمكن أن يصل إلى آلاف القرّاء في لحظة واحدة.
أضافت الأستاذة أمينة عيتاني أبدًا، الكتاب الورقي لا يمكن أن يموت. هو يحمل الذاكرة والرائحة والحنين. لكن القارئ اليوم أصبح يبحث عن المرونة.
الإحصاءات تشير إلى أن مبيعات الكتب الإلكترونية في العالم العربي زادت بنسبة 14٪ في العام الماضي، خصوصًا في الإمارات ومصر والسعودية. وهذا لا يعني أن الناس تخلّوا عن الورق، بل أنهم وجدوا توازنًا جديدًا يجمع بين أصالة الكتاب الورقي وسهولة الكتاب الإلكتروني.
كيف يمكن للرقمنة أن تخدم الثقافة العربية؟
الرقمنة هي درع لحماية الهوية الثقافية. عندما نحول كتبنا ومخطوطاتنا إلى نسخ رقمية، فنحن نحميها من النسيان ونفتحها أمام العالم. اليوم يستطيع طالب في البرازيل أن يقرأ رواية عربية أو مخطوطة من القرن العاشر بفضل الرقمنة.
لكن الواقع أن العالم العربي لا يُسهم إلا بـ 1.1٪ من إنتاج الكتب في العالم، وهذه نسبة قليلة جدًا. كل كتاب عربي يُنشر رقميًا هو خطوة نحو ترسيخ حضورنا الثقافي عالميًا.
المكتبة الحديثة لم تعد مكانًا للصمت فقط، بل أصبحت جسرًا بين الإنسان والتكنولوجيا. فيها ورش عمل، وأنشطة للأطفال، ودورات تدريبية في البحث والذكاء الاصطناعي. إنها مساحة للتعلم والإبداع، وليس فقط للقراءة. المكتبة تجمع بين دفء الورق وسرعة الشاشة — بين الأجيال القديمة والجديدة.
ما الذي نخسره إن لم نواكب هذا التحول؟
تابعت أمينة عيتاني "نخسر الكثير. إذا لم تُرقمن الكتب العربية، فستختفي من الإنترنت ومن الذاكرة الرقمية. الذكاء الاصطناعي ومحركات البحث تتعلم من البيانات، وإذا لم تكن العربية موجودة هناك، فلن تكون جزءًا من المستقبل.
الكتاب الورقي يعيش في مكان واحد، أما الرقمي فيعبر الحدود — من بيروت إلى سيدني، ومن القاهرة إلى تورنتو. إذن، الرقمنة ليست رفاهية بل ضرورة وجودية لحفظ اللغة والثقافة.
الذكاء الاصطناعي: صديق أم عدو؟
هناك من يخاف من الذكاء الاصطناعي ويعتبره خطرًا على الثقافة. ما رأيك؟
الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا، بل مرآة. إنه يعكس ما نُدخله فيه من محتوى ومعرفة. فإن وضعنا فيه أدبًا عربيًا وفكرًا عربيًا، فسيتعلم عن ثقافتنا. أما إن تركناه فارغًا، فسيتحدث بلغة الآخرين فقط. ببساطة، إذا لم تكن العربية في البيانات، فلن تكون في المستقبل.
الورقي هو العاطفة، والرقمي هو الوصول. الطفل الذي يقرأ على الجهاز يجب أن يجد مكتبة في مدرسته. والقارئ الذي يحب الورق يمكنه أن يشارك قراءاته عبر الإنترنت. الاثنان يكملان بعضهما — فالأصالة تحتاج إلى تحديث، والحداثة تحتاج إلى جذور.
نحن هنا في أستراليا، وهناك جالية عربية كبيرة. هل للمكتبات العامة دور في دعمها؟
بكل تأكيد، وهذا من أجمل ما يميز أستراليا. المكتبات العامة هنا لا تخدم القارئ فحسب، بل تحتضن الثقافات المختلفة، ومنها الثقافة العربية. في ولاية فيكتوريا مثلًا، أطلقت مكتبة Myli حملة بعنوان "أحب مكتبتك بلغتك"، دعت فيها أفراد الجاليات، ومنهم العرب، إلى كتابة رسائل حب لمكتباتهم بلغاتهم الأصلية.
أما مكتبات Wyndham City فتوفّر مجموعات واسعة من الكتب العربية، منها قصص للأطفال، وروايات، وكتب دينية، وحتى كتب إلكترونية.
وفي Connected Libraries هناك قسم خاص للكتب الإلكترونية بالعربية يمكن استعارتها عبر الإنترنت بسهولة. حتى المكتبة الوطنية الأسترالية في كانبيرا، تحتفظ بمجموعات من الكتب والجرائد العربية القديمة لمساعدة المهاجرين على تتبع جذورهم الثقافية.
هذه المبادرات الجميلة تُظهر أن اللغة العربية حاضرة في المكتبات الأسترالية، وأن القراءة يمكن أن تكون جسرًا للانتماء والهوية، حتى بعيدًا عن الوطن.
وخلصت الأستاذة أمينة عيتاني — المستشارة الدولية في مجال المكتبات والمعرفة المفتوحة والمقيمة في بيرث بالقول رسالتي بسيطة:
لنحافظ على الكتاب الورقي، فهو القلب الذي ينبض بالذاكرة والهوية، ولنحتضن الكتاب الرقمي، فهو النبض الذي يحمل صوتنا إلى العالم.
الورق يحفظ الروح، والرقمي يمنحها حياة جديدة. وإذا اجتمعا، تبقى الثقافة العربية حيّة، مضيئة، ومتصلة بالمستقبل.
شكرًا لكم، وشكرًا لكل مستمع يؤمن أن القراءة هي الطريق إلى الحرية والمعرفة.
وأود أن أقدّم شكرًا خاصًا إلى منال العاني وفريق إذاعة SBS العربية
على هذه الفرصة الجميلة للحوار حول مستقبل المعرفة والكتاب العربي.
وجودكم ومساحاتكم الإعلامية تعطي للأصوات الثقافية العربية في أستراليا والعالم مكانًا حيًّا للتأمل والنقاش
التفاصيل في اللقاء الصوتي اعلاه الذي أجرته منال العاني مع لأستاذة أمينة عيتاني — المستشارة الدولية في مجال المكتبات والمعرفة المفتوحة والمقيمة في بيرث
هل أعجبكم المقال؟ استمعوا لبرنامج "أستراليا اليوم" من الاثنين إلى الجمعة من الساعة الثالثة بعد الظهر إلى السادسة مساءً بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق Radio SBS المتاح مجاناً على أبل وأندرويد.
للاستماع إلى أحدث التقارير الصوتية والبودكاست، اضغطوا على الرابط التالي.



