في زوايا بيروت القديمة، وبين أزقتها المفعمة بالتاريخ، وذكريات الشغف والمعاناة، وُلد خضر صالح، الشاعر الذي خطّ أول أبياته في جامعة لبنانية عاش مفكرًا في وطنه، وساعيًا نحو أمل لا يموت.
كان خضر يخطّط للبقاء المؤقت. لم يكن ينوي الهجرة الدائمة، لكن الاضطراب السياسي والاجتماعي في لبنان فرض عليه طريقًا آخر. وفي سيدني، بدأ حياته من جديد، تعلّم الإنجليزية وأكمل دراسته في جامعة سيدني، قسم اللغات السامية. لكنه لم يكتفِ بالاندماج الأكاديمي، بل قرر أن يغرس جذوره في الأرض الجديدة، لا ناسياً موطنه، بل حاملاً إيّاه معه في كل خطوة.
من شارع مهمّش إلى أيقونة مجتمعية
كانت نقطة التحوّل الكبرى في حياته حين انتقل إلى "ريفر وود"، أحد أكثر أحياء نيو ساوث ويلز تهميشًا آنذاك. رأى أن صمته خيانة، فبدأ يعمل من الداخل، لا كمسؤول، بل كمواطن. أسّس الجمعية العربية الأسترالية في مركز ريفروود المجتمعي، وأدارها لاحقًا ليقود شبكة من 150 موظفًا ومتطوعًا يخدمون المئات من أبناء الجالية.

خضر صالح في سيدني عام 1986 Source: Supplied / supplied: Khodor SAleh
صوت عربي في دهاليز السياسة الأسترالية
بدأ خضر صالح طريقه السياسي متطوعًا، لكنه سرعان ما أصبح اسمًا بارزًا في حزب العمال الأسترالي. انتُخب عضوًا في مجلس مدينة كانتربري لثلاث دورات، وشغل منصب نائب العمدة، وكان أول مسلم لبناني يتبوأ موقعًا سياسيًا بهذه المنطقة، فاتحًا الطريق لآخرين من أبناء الجالية العربية للمشاركة السياسية.
كان خضر من أوائل الداعمين لحقوق المهاجرين والجاليات الناشئة، حاملًا رؤيته لسياسة نزيهة وشاملة، وناقدًا صريحًا للتجاذبات الطائفية والسياسات الضيقة التي هرب منها في وطنه.

خضر صالح لحظة تكريمة بجائزة الملكة إليزابيث Source: Supplied / supplied:Khodor Saleh
وسام الملكة واعتراف بالإنجاز
في عام 2019، حصل خضر على وسام أستراليا (OAM) ضمن قائمة تكريم الملكة، تكريمًا لخدماته الجليلة في تعزيز العلاقات متعددة الأديان والثقافات. يقول: "هذا الوسام ليس لي وحدي، بل لأبناء الجالية الذين آمنوا بالعمل الجماعي، والذين تعبوا معي ثلاثين عامًا من أجل هذه اللحظة".
ورغم هذا التقدير، لا يخفي حسرة دفينة، إذ يضيف:
لم أتلقَّ رسالة شكر من أي مسؤول في لبنان، لكنني تلقيت وسامًا من أرفع جهة في أستراليا. هنا، تُقدّر الكفاءات، وهناك تُنسى.
منبر الثقافة والشعر
لم تكن السياسة وحدها منبره، بل حمل خضر قلمه شاعرًا منذ شبابه، فأصدر ديوانين: "دم حار لحروب باردة" و"للينابيع يمدّ يده"، كما شارك في تأسيس "منتدى الأحد الثقافي" في سيدني إلى جانب شعراء ومثقفين عرب بارزين. كما عمل مراسلًا صحفيًا لعدة صحف عربية منها "السفير"، "الحياة"، و"الشرق الأوسط".
أستراليا... فرصة لا تفرّط بها
يرى خضر صالح أن قراره بالهجرة كان "صائبًا في كل النواحي"، وينصح المهاجرين الجدد قائلًا: "ابتعدوا عن الطائفية، وكونوا جزءًا من هذا الوطن العادل، انخرطوا في السياسة والمجتمع، فالتغيير لا يصنعه المتفرجون".
وصفته للنجاح؟
يقول بثقة المجرب: "النجاح لا يُمنح، بل يُنتزع بالعمل الجاد، والصدق، والشفافية، والمثابرة، والإخلاص".
خضر صالح لم يكن مجرد مهاجر آخر في قائمة طويلة من اللبنانيين في الشتات، بل كان ذلك الصوت الهادئ الذي قرر أن يصرخ بالفعل لا بالكلام، وأن يبني لا أن يشكو، فصار قصة تروى، وحلمًا عربيًا تحقق على أرض أسترالية.
استمعوا لتفاصيل رحلة السياسي والناشط الاجتماعي خضر صالح، بالضغط على الرابط الصوتي في الأعلى.