في الأول من فبراير شباط الماضي، فقدت أسرة داني وليلى عبد الله ثلاثة من أطفالهم الستة في حادثة دهس. شاحنة يقودها سائق مخمور صدمت سبعة أطفال على الرصيف المخصص للمشي، فأودت بحياة أربعة أولاد ثلاثة منهم من عائلة واحدة هم أنتوني عبدالله (13 عاما) واختاه أنجيلينا (12 عاما) وسيينا (8 أعوام) وقريبتهم فيرونيك صقر (11 عاما).
لكن هذه ليست مجرد قصة مأساة هزت الجالية العربية والمجتمع الأسترالي بأسره، لكنها أيضا قصة التسامح الشجاع الذي ضمد الجراح ونشر معاني الحب والصفح والتضامن بين أبناء المنطقة والجالية العربية.
في منزلهما بضاحية أوتلاندز شمال غرب سيدني جلس داني وليلى لتأمل قرارهما الصعب ليلة الحادث بمسامحة سائق الشاحنة، حيث قال داني عبد الله لأس بي أس عربي24: "تخيل لو لم أسامح، ما الذي كان يمكن أن يحدث في تلك الليلة."
من البداية، ترك الوالدان إيمانهما ليرشدهما في طريق استيعاب تلك الفاجعة، كما قالت الأم ليلى جعجع: "الله أراد أن يأخذ أولادي، في هذا الوقت وبتلك الطريقة، وهذا هو الشيء الذي جعلنا نسامح."
وأكدت "نحن لا زلنا عند رأينا، وبصراحة أنا أصلي للسائق وأصلي لكل شخص كان في الحادث."

Sienna Abdallah (L) her siblings Antony and Angelina (R) Source: Supplied
ورغم رحيل الأولاد، إلا أن رابطا روحيا ما زال يربط الأبوين بأطفالهما، كما قال داني "أذهب إلى مكان الحادث وأصلي. أنا أعشق تلك اللحظة. يصبح الأمر كما لو كان لدي عشرين دقيقة أقضيها مع الأطفال، لدي صورهم وأصلي وأبكي، كل يوم أبكي، لن أقول إنني لا أفعل."
الأمر نفسه بالنسبة للأم "أطفالي ماتوا، هذا يعني أنهم ماتوا في هذا الدنيا، لكنهم ما زالوا أحياء في الحياة الثانية، مع يسوع والعدرا والقديسين، ويعيشون حياة حلوة."

An image of the victim Veronique Sakr left and her mother Bridget Sakr praying in church. Source: AAP
الأول من فبراير- شباط
وقع الحادث في نهاية يوم حار، عندما كان الأطفال السبعة وأسرهم مجتمعين، فطلبوا من الأهل السماح لهم بالذهاب معاً مشياً على الاقدام قبل الغروب من أجل شراء الآيس كريم، لكن خاطرا سيئا خطر لرانيا جعجع في هذا اليوم، كما قالت الأم: "سمعت اختى تقول لداني إن كان متأكدا أنه من الآمن أن يمشي الأطفال، فرد عليها داني قائلا: وما المشكلة؟ الأمر لن يستغرق أكثر من خمس دقائق، يشترون الآيس كريم ويعودون مباشرة."
في نفس الوقت كان الشاب سامويل دافيدسون البالغ من العمر 29 عاما يقود سيارته في شوارع أوتلاندز. دافيدسون كان يقضي وقتا صاخبا مع أصدقائه تخلله الكثير من شرب الكحول، حيث قالت الشرطة إن نسبة الكحول في الدم لديه كانت أعلى بثلاث مرات من الحد القانوني عند وقوع الحادث، بالإضافة لعثور الشرطة على آثار للكوكايين و MDMA.
كان دافيدسون في طريقه لسحب بعض النقود من ماكينة الصرافة القريبة من منزله، وفي شارع بيتيغتون رود، الشارع الرئيسي لمنطقة أوتلاندز، فقد السيطرة على سيارته وصعد بها فوق الرصيف ليصدم الأطفال السبعة.

The seven kids on their way to buy ice cream minutes before the tragedy Source: Supplied
توفي أربعة أطفال على الفور وأصيب الباقون بإصابات متفاوتة، منهم شربل قصاص البالغ من العمر 11 عاما، والذي دخل في غيبوبة ما زال يتعافى منها حتى الآن.
هرع الوالدان إلى مكان الحادث ليجدوا الأطفال على الأرض، الأم ليلى جعجع تتذكر الليلة بوضوح: "انجيلينا كانت مبتسمة، ففكرت أنها لم تصب بأذى، لأني رأيت ابنتي مبتسمة أمامي، ولكن عندما رأيت سيينا صُدمت."
وأضافت "بعدها رأيت أنتوني." سكتت الأم لوهلة فذكرها داني "وشربل وفيرونيك." ثم استعادت جعجع زمام الحديث قائلة "ابنتي ليانا ركضت تجاهي وهي تبكي وتقول لي إنها لا تريد أن تخسرني مثلما خسرت أخوتها، فقلت لها لن تخسري أحد، لم يصابوا بأذى، أنجيلينا تبتسم."
كانت الأفكار تتلاحق في رأس الأم "مباشرة عقلي فكر بشكل إيجابي، أنهم سينهضوا جميعا، وكل شيء سيعود كما كان، فلم أكن أفكر وقتها أن تلك هي النهاية، وأن أولادي قد ماتوا."
بالنسبة لداني كان الأمر واضحا بمجرد وصوله: "عندما وصلت إلى هناك، عرفت مباشرة أنهم فارقوا الحياة، عندما نظرت إلى ثلاثتهم وفيرونيك."
محمد ودانا ديب جيران وأصدقاء العائلة، سمعا من منزلهما أصوات سيارات الإسعاف والإطفاء تصل إلى المنطقة وتتوقف بالقرب من المنزل، فأدركا أن حادثا وقع هناك.
يحكي محمد عن ذكرياته من تلك الليلة: "موقع الحادث قريب للغاية من منزلي، وعندما نزلت لأرى ما يحدث، قالت لي امرأة ان أربعة أطفال قد لقوا حتفهم." وأضاف "استمريت بالمشي حتى رأيت داني، فناديته فقال لي لقد فقدت ثلاثة من أطفالي للتو."
الجد ميشيل جعجع والد ليلى يتذكر تلك الليلة "الله يلعن تلك الليلة، أريد أن أدعمهم، وفي نفس الوقت لا أستطيع البكاء، يجب أن أكون قويا، ولكني أعرف أني أكذب على نفسي، ابنتي وأبنائها، ما الذي يمكن أن أفعل." وأضاف "هناك قوة آلهية تتدخل في النهاية، لأنه لن يتركنا."

Grandfather Michelle Geagea with the Abdallah's Source: Supplied
"شيء حدث هنا أكبر مني ومن ليلى"
في قلب الفاجعة، حلت السكينة على قلب داني وليلى كما تحكي الأم: "كل الناس كانت تصرخ مع بعضها حولنا، ولكن أنا وداني كنا هادئين للغاية، كما لو كنا بعالم آخر، الأمر بدا كما لو كنا هناك، لكننا لم نكن هناك."
وقال داني: "كونك أب فإنه يمكنك التحكم في بعض الأشياء مع أطفالك، لو سقط ابنك تلتقطه، لو أحرق يده، فإنك تحرق يدك معه، فهناك أشياء يمكنك أن تتحكم فيها، ولكنني عرفت أنه ليس بإمكاني التحكم في هذا الأمر."
وأضاف "هناك شيء ما حدث هناك، أكبر مني ومن ليلى، لذا سلمت الأمر لله، قلت يا آلهي هذا شيء أكبر مني، أنت المتصرف في الأمر."
"بيقولوا طفل الموت بيكون محبوب" هكذا وصف الجد ميشيل جعجع أحفاده الثلاثة. وقال "هما مميزين من الأساس، مثلا عندما تعانقك أنجيلينا، تدخلك إلى قلبها مباشرة."
وأضاف "أنا وانتوني كان بيننا مناكفات. كان هناك كلمة "فريش آير" وهي لها تفسير باللهجة اللبنانية غير لائق، وكان دائما ما يعلق عليها معي، وكنا نلعب مع بعض باللكمات." وقال "كل شخص كان عنده شيء مميز، ولكن أكثر شيء كانت سيينا، يا آلهي على سيينا."

Abdallah's family before the tragedy Source: Supplied
دينيس كانشاري صديقة العائلة تصفهم "كانوا أطفالا سعداء، كانوا مفعمين بالحياة، خزانات الحب لديهم كانت ممتلئة."وقالت "هذه هي الأشياء التي احتفظت بها في ذاكرتي عن الأطفال، أما الحادثة فكانت محض مأساة."
التضامن والحب يضمدان الجراح
كان وقع الفاجعة على الجميع ثقيلا، سواء من سكان أوتلاندز أو من أبناء الجالية العربية أو من المجتمع الأسترالي الأوسع، وتعاملت كل أسرة مع حزنها على الأطفال بطريقتها الخاصة، لكن الجميع شعر بالإلهام من قوة وصلابة الوالدين.
الجارة أنجيلا شحادة لا تزال تحمل ذكرى الأطفال في قلبها حتى الآن، حيث قالت وهي تغالب دموعها "قيادة السيارة كل يوم، والمرور من مكان الحادث مع أطفالي، ورؤيتهم كل يوم، أمر صعب للغاية." الحادث أثر على علاقتها بأطفالها: "أحاول أن أكون أكثر تفهما لهم، لأن هناك بعض الأشياء التي كنا نعتقد أنها مهمة، اكتشفنا الآن بوضوح أنها ليست كذلك."
تأثير الحادث امتد من دائرة الجيران والأصدقاء إلى جميع من تابع القصة في مشهد وصفه داني عبد الله أنه "حفر مكانة خاصة في قلبه. وقال داني: "المسيحيون جاءوا ليصلوا معنا، المسلمون جاءوا وصلينا معا وتشابكت أيدينا بالحب، البروتستانت، أشخاص من شتى مناحي الحياة. تلقينا خطابا من الحاخام في المعبد اليهودي، الملحدون."
وأضاف "أعتقد أن ما فعله هؤلاء الأطفال هو أنهم هدموا الجدران وأظهروا أننا جميعا بشر، هذه البشرية تضامنت معا من مختلف الأديان وأظهرت الكثير من الحب والاحترام."
ربيع الدهيني الذي يعيش في ليفربول، هو أحد الأشخاص الذين انفعلوا بتلك المأساة دون سابق معرفة بالأهل "لم أكن قد قابلت داني من قبل، لم أكن أعرف من هو ولم أكن أعرف من هي عائلته، ولكن بمجرد أن التقينا نشأ بيننا رابط فوري."

Abdallah's family in front of Our Lady Of Lebanon church in western Sydney Source: Supplied
وأضاف الدهيني الذي كان يستعد لاستقبال ابنته الأولى عندما سمع عن الحادث "كانت هناك لحظة بيننا، فهم داني لماذا جئت لتعزيته، وأنا شعرت وقتها أن هذا أمرا كان على أن أفعله."
وقال الدهيني "شعرت بتلك الرغبة في أن أعانقه، لم يكن لدي كلام لأقوله، قرأت الفاتحة ووقفت بجوارهم بينما كانوا يصلون، في هذا الوقت لم يكن يهم اختلاف الإيمان والديانة، فعندما يحدث شيء كهذا ويؤثر فيك بهذا الشكل الكبير، يمكنك أن ترى فعل الله، وعندها ترى كم هو مذهل."
أطلق الدهيني اسم ليلى على ابنته الأولى "إن شاء الله ابنتي يكون لديها تلك القوة والإيمان."

Danny Abdallah is comforted during the funeral by Rabea Al-Deheny from Liverpool Source: AAP
أثر الفراشة لا يزول
هذا الأثر الفوري للحادث لم يزول مع مرور الوقت، بل امتد ليخلق روابط متينة ومستمرة بين أبناء المنطقة والجالية كلها. فالأشخاص الذين التقوا أثناء زيارة الأسرة أو الصلاة معهم أصبحوا أصدقاء كما تصف لولا واكيم أحد سكان المنطقة: "لو قابلنا بعضنا نلقي التحية، نسأل عليهم ويسألون علينا، خاصة في هذا الزمن الصعب في ظل كورونا." وقالت "أصبحت ابذل مجهود من أجل أن أقابل الناس الذين تعرفت عليهم عندما كنا نصلي للأطفال، يعني هذه الفاجعة جمعت الجالية اللبنانية في منطقة أوتلاندز."
وقالت دينيس كانشاري "الأمر يجعلك تعيد تقييم الأولويات وما هي الرحلة التي ترغب أن تقطعها في هذا الحياة، فبداية من هذا اليوم لن تعود كما كانت مرة أخرى، وهي ليست كما كانت بالفعل."
بيير واكيم صديق العائلة المقرب لم يكن بعيدا عن هذا التحول: "نحن جميعا مشغولون في حياتنا نحاول إعالة عائلاتنا واللحاق بإيقاع العالم السريع، لكن تلك الحادثة جعلتنا جميعا نتوقف ونأخذ بعض الوقت لنفكر، ما هو المهم فعلا، ومن أجل ماذا نعمل بهذا الشكل المستمر، هل نقضي وقتا كافيا مع أطفالنا، هل نمضي وقتا كافيا للاستمتاع بصحبة بعضنا، صحبة الأصدقاء والعائلة ونشعر فعلا بكل جزء من تلك اللحظات."
أما دانا ديب فتصف التغيير الذي طال حياتها "قبل هذا الأمر، كنت أنا من النوع الذي يأكل أولادي بوقت محدد، وكنت صارمة للغاية فيما يتعلق بأبسط الأشياء، ولكن الآن أصبحت لا أكترث كثيرا بتلك الأشياء."
الحادثة كانت أيضا جرس إنذار لمخاطر القيادة تحت تأثير الكحول، كما يقول الشاب دانيال مراد "عندما احتسي الكحول الآن وأفكر أنه من الآمن أن أقود السيارة، أعرف أنني لست كذلك، لأني أفكر مباشرة في الأطفال وأفكر في داني وليلى وبريدجيت وما مروا به، لذا فإن مشروب واحد كاف بالنسبة لي لأقرر ألا أقود السيارة."
المسامحة كانت الدواء
قرار المسامحة من الوالدين كان كبيرا بحجم المأساة، حتى أنه بالنسبة لكثيرين كان عصيا على التصديق. هل كان نابعا من رغبة لحظية في تجنب الصدمة أم أنه قرار نابع من القلب فعلا.
محمد ديب صديق العائلة تحدث إلى داني بعد ثلاثة أسابيع من الواقعة: "كنت مع داني بالسيارة، وقلت له، بيني وبينك، هل تسامح الرجل بالفعل، فرد علي قائلا، نعم أسامحه، وشرح لي لماذا قرر هو وليلي المسامحة، ولماذا يرغب في ألا تكون أسرته أسيرة للمرارة التي خلفتها الواقعة، ولماذا يريد أن يتجاوز هو وأسرته ما حدث."
وقال "هؤلاء الناس كيف هداهم الله ومنحهم القوة؟ أعتقد أن داني وليلى أصبحوا من أعمدة الجالية ونحن جميعا نستلهم منهم القوة."
الأم الثكلى ليلى جعجع عبدالله أصبحت نموذجا ملهما للكثيرين، حيث ألهم قرارها الشجاع آخرين ليأخذوا نفس المسار: "الناس ترسل إلى رسائل على الفيسبوك والانستغرام، ليحكوا لي كيف تغيرت حياتهم للأحسن، وأشخاص كثر في السجن يرغبون في أن يسامحهم من تعرضوا للأذى على أيديهم، وأشخاص آخرين يرغبون في مسامحة من آذاهم، وهناك من كان لا يؤمن وأصبح مؤمنا، أو من كان مؤمنا وتمسك بالإيمان أكثر."

The Abdallah's were really close family Source: Supplied
وشكرت جعجع الجالية كلها على الدعم والمساندة خلال تلك المحنة: "أبناء الجالية وقفوا إلى جوارنا، ولم يتركونا، وحتى الآن واقفين إلى جوارنا ولم يتركونا."
وأضافت "نشعر بحبهم وقيامهم برعاية أولادنا، وأنا من كل قلبي أشكرهم لأنني أقدر وقفتهم إلى جواري وأتمنى أن أقف بجوارهم في وقت أفضل من هذا.