نظام السجن الصامت.. تجربة عقابية مختلفة

الهروب الأشهر.. Martin Cash والليلة الأخيرة


World Heritage listed Port Arthur Historic Site is the best preserved convict site in Australia, and among the best surviving examples of large-scale convict transportation and the colonial expansion of European powers through the presence and labour of convicts. Source: Moment RF / Kelly Cheng/Getty Images


spk_0
في أقصى الجنوب الشرقي من تَسْمَانْيَا، وعلى بُعد ساعةٍ ونصف من هوبارت، تجد بقعةً هادئة اليوم، لكنها كانت قبل قرنين مسرحًا لنظامٍ عِقابيٍّ صارم، ولحكايات هروبٍ تكاد لا تُصدَّق.
spk_0
إنه بورت آرثر… موقعٌ لم تُبنَ تفاصيلُه ليكون مَعْلَمًا سياحيًا، بل ليكون درسًا في السيطرة والانضباط، في زمنٍ كانت فيه أستراليا وجهةً للسجناء الذين نُقِلوا من أنحاء الإمبراطورية البريطانية.
spk_0
حلقةٌ جديدة من مشوار، معي أنا ريان برهوم، ونحن اليوم أمام مدينةٍ صغيرةٍ ظاهريًا، لكن كلَّ حجرٍ فيها يحمل قصة.
spk_0
الطريقُ إلى بورت آرثر يمرُّ عبر غاباتٍ كثيفةٍ تنفتح فجأةً على خلجانٍ واسعةٍ ومياهٍ باردة. شبهُ جزيرةٍ محاطةٌ بالبحر من جهاتٍ ثلاث، ولكي تصل إليها لا بد أن تعبر رقعةً رفيعةً من اليابسة تُعرف باسم إيغل هوك نِك. هذا الموقعُ الطبيعي كان جزءًا من الخطة الأصلية للمستعمرة؛ مكانٌ معزولٌ تمامًا يتحوّل عند الليل إلى سجنٍ طبيعي.
spk_0
حتى إن السلطات البريطانية استخدمت سلسلةً من الكلاب الحارسة لمنع أي محاولة هروب، بحسب سجلات إدارة السجون في تَسْمَانْيَا. وهنا تبدأ ملامحُ عالمٍ مختلف… عالمٍ بُني ليستقبل الرجال الذين أرادت الإمبراطورية إبعادهم عن كل شيء.
spk_0
في عام ألفٍ وثمانمائةٍ وثلاثين، وصل فريقٌ صغير من الجنود والعمال إلى خليج ميسن كوف. كان الهدفُ بسيطًا في البداية: إنشاءُ محطةٍ لقطع الأخشاب، لأن غابات تَسْمَانْيَا كانت كنزًا نادرًا للخشب الصلب. لكن مع مرور الوقت تغيّر كل شيء؛ تحوّلت المحطة إلى مستعمرةٍ عِقابية رئيسية.
spk_0
المكان كان نائيًا بما يكفي لمنع الهروب، والموارد الطبيعية وفيرة بما يكفي لتشغيل السجناء في أعمالٍ مرهقة طوال النهار. تحوّل بورت آرثر تدريجيًا إلى سلسلة منشآت متكاملة: سجن مركزي، ورش لصناعة السفن، أفران الحدادة، مطابخ جماعية، مستشفى، وحتى مدرسة لتعليم القراءة والكتابة لبعض السجناء.
spk_0
ووفقًا لسجلات Port Arthur Historic Site، كان الهدفُ من هذا النظام إنتاجَ الانضباط من خلال العمل، وهو مفهومٌ عُرف في ذلك الوقت باسْم Industrial Discipline. كانت الحياة هنا واضحة: العمل… الصمت… النوم… ثم العمل من جديد.
spk_0
من بين جميع مباني بورت آرثر، يبقى Separate Prison أكثرها إثارةً للدهشة… وأكثرها قسوة. هذا السجن صُمّم في أربعينيات القرن التاسع عشر على نموذجٍ أمريكيٍّ يُعرف بـ "The Separate System"، وهو نظام يقوم على عزل السجين عن أي صوتٍ أو بشر: يُمنع من الكلام، يُمنع من رؤية الآخرين، يأكل وحده، يصلّي وحده، وحتى عند الانتقال يرتدي قناعًا يغطي وجهه.
spk_0
كان الاعتقاد السائد أن الصمت يُصلح الروح، لكن الواقع قال غير ذلك؛ فقد انهار كثيرٌ من السجناء نفسيًا وتدهورت صحتهم العقلية بسبب العزلة الطويلة. اليوم، عندما تقف داخل إحدى تلك الزنازين الضيقة، تشعر أن الجدران لا تزال تحتفظ بصدى أنفاس من مرّوا من هنا.
spk_0
تاريخُ بورت آرثر ليس تاريخَ عقوباتٍ فقط، بل هو أيضًا تاريخُ محاولاتِ هروبٍ جريئة. وأشهر من حاول ونجح هو مارتن كاش. وُلِد كاش في أيرلندا ونُقل إلى أستراليا بعد إدانته بالسرقة. لم يكن عنيفًا، لكنه كان مصمّمًا على استعادة حريته.
spk_0
في عام ألفٍ وثمانمائةٍ واثنين وأربعين، قرر الهروب من بورت آرثر عبر إيغل هوك نِك، وهو المكان الذي كان يُعد مستحيل المرور بسبب الكلاب والحراس.
spk_0
لكن كاش كان مراقبًا ممتازًا؛ درس تحركاتِ الحراس، واختار الليلة الأكثر ظلامًا، وتسلل مع صديقين عبر الغابة الرطبة. عبروا النِّك تحت المطر، وتجنّبوا الكلاب عبر السير في المياه الضحلة، ثم ركضوا لأميالٍ داخل الغابات حتى وصلوا إلى منطقة آمنة.
spk_0
تحوّل كاش بعدها إلى شخصيةٍ أسطورية، وكتب مذكّراته "مارتن كاش"، وهي من أهم المراجع حول الحياة داخل بورت آرثر. بورت آرثر ليس مكانًا مغلقًا بين جدران؛ إنه خليجٌ واسع تحيط به غاباتٌ كثيفة ومنحدراتٌ حجرية شاهقة.
spk_0
شمسٌ خفيفة تنعكس على الماء، ورياحٌ لا تهدأ آتيةٌ من الجنوب. اليوم يبدو المكان هادئًا، لكنه في القرن التاسع عشر كان جزءًا من العقاب؛ المحيط البارد، العزلة، والمسافة الوعرة كلها خلقت جدارًا طبيعيًا آخر حول السجناء.
spk_0
لا يكتمل الحديث عن بورت آرثر دون ذكر الحادثة الأليمة التي وقعت عام ألفٍ وتسعمائةٍ وستةٍ وتسعين. كانت مأساةً أثّرت في المجتمع الأسترالي بأكمله، حيث راح ضحيتها خمسةٌ وثلاثون شخصًا وأصيب آخرون. وأدّت إلى إصلاحٍ واسع لقوانين حيازة السلاح.
spk_0
الموقع اليوم يضم حديقةً تذكارية هادئة، مكانًا للتأمل، وتذكيرًا بمعنى السلام. اليوم يُعتبر بورت آرثر موقعًا تراثيًا عالميًا مُدرجًا في قائمة اليونسكو.
spk_0
المكان مفتوحٌ للزوار، ويقدّم جولاتٍ ذات طابعٍ قصصي، وقوارب تأخذك لمشاهدة الخليج والمنشآت من زاويةٍ مختلفة. تحوّلت المنطقة إلى إحدى أهم الوجهات التاريخية في أستراليا، وتستقبل مئات الآلاف من الزوار سنويًا.
spk_0
عندما تغادر بورت آرثر تدرك أن هذا المكان أبعد من أن يكون مجرد أطلال.
spk_0
إنه سجلٌّ مفتوح لمرحلةٍ مهمّة في تاريخ أستراليا؛ مرحلةٌ صعبة شكلت جزءًا من شخصية القارة الحديثة، وتركت أثرًا لا يمحى في ذاكرة البلاد. هنا بين البحر والغابات والمنشآت القديمة، يتقاطع الماضي القاسي مع الحاضر الهادئ، في موقعٍ يذكّرنا بأن فهم التاريخ جزءٌ أساسي من فهم المكان. كان هذا مشوارنا إلى بورت آرثر.