مشوار إلى بورت آرثر: أول مستعمرة عقابية كبرى في تسمانيا

Port Arthur Historic Site, Tasmania

World Heritage listed Port Arthur Historic Site is the best preserved convict site in Australia, and among the best surviving examples of large-scale convict transportation and the colonial expansion of European powers through the presence and labour of convicts. Source: Moment RF / Kelly Cheng/Getty Images

على الساحل الجنوبي الشرقي من تسمانيا، وعلى بُعد ساعة ونصف من هوبهارت، يقع موقع Port Arthur؛ أحد أبرز المعالم التاريخية في أستراليا، والذي يجمع بين جمال الطبيعة وقسوة الماضي في مشهد واحد يصعب نسيانه. ورغم الهدوء الذي يلف المكان اليوم، إلا أن تاريخه يحكي حكاياتٍ معقّدة عن المستعمرات العقابية، ومحاولات الهروب المستحيلة، والتحولات الكبرى في المجتمع الأسترالي.


للاستماع إلى أحدث التقارير الصوتية والبودكاست، اضغطوا على الرابط التالي.

تعود بدايات Port Arthur إلى عام 1830، عندما وصلت أولى البعثات البريطانية لإنشاء محطة لقطع الأخشاب في خليج Mason Cove.
لكن الموقع سرعان ما تحوّل إلى واحدة من أهم المستعمرات العقابية في الإمبراطورية، نظرًا لعزلته الطبيعية ومحاصرته بالمياه الباردة والغابات الكثيفة.

أُنشئت في المنطقة ورش للصناعات الثقيلة، ومستشفى، ومطبخ جماعي، ومدرسة، إضافة إلى السجن المركزي الذي أصبح لاحقًا رمزًا لتاريخ الموقع.

نظام السجن الصامت.. تجربة عقابية مختلفة

من أكثر المباني لفتًا للانتباه هو Separate Prison، الذي اعتمد نظامًا عقابيًا يقوم على العزل التام.

كان السجناء يُمنعون من الكلام أو الاختلاط، ويؤدون صلواتهم وحدهم، وحتى انتقالاتهم تتم بوجوه مغطاة.
Port Arthur
Credit: by Port Arthur
اعتمدت السلطات هذا الأسلوب بهدف “إصلاح السلوك”، لكنه تسبب بحسب الوثائق الرسمية بانهيارات نفسية عديدة، ما جعله من أكثر النماذج العقابية إثارة للجدل في القرن التاسع عشر.

الهروب الأشهر.. Martin Cash والليلة الأخيرة

تعبّر قصص Port Arthur عن محاولات متواصلة لاستعادة الحرية، رغم استحالة الهرب من شبه الجزيرة الضيقة المحاطة بالمياه.

وتبقى قصة السجين الأيرلندي Martin Cash هي الأشهر على الإطلاق؛ فقد تمكّن عام 1842 من اجتياز منطقة Eaglehawk Neck المحروسة بالكلاب والحرس، عبر السير في المياه الضحلة والانطلاق ليلًا وسط الغابات.
Convict railway, Port Arthur, Tasmania, 1830     Date: 1830
Convict railway, Port Arthur, Tasmania, 1830 Date: 1830 Credit: NATIONAL ARCHIVES
أصبحت قصته لاحقًا جزءًا من الذاكرة الأسترالية، ودُوّنت في مذكراته الشهيرة The Adventures of Martin Cash.

الطبيعة الخلابة.. جزءًا من العقوبة

رغم القسوة التي ارتبطت بتاريخ المكان، إلا أن الطبيعة حول Port Arthur مدهشة بجمالها:
غابات كثيفة، خلجان واسعة، ومياه باردة يتغيّر لونها مع حركة الشمس.

هذا الجمال كان ذات يوم عنصرًا في نظام العقاب، إذ كانت الجغرافيا نفسها تمنع أي محاولة هروب.

يضم الموقع اليوم مساحة تذكارية هادئة لتخليد ذكرى حادثة عام 1996، التي شكّلت نقطة تحوّل في المجتمع الأسترالي وأدت إلى تغييرات واسعة في قوانين السلاح.

الحديقة تستقبل الزوار بهدوء، دون تفاصيل، وبروح من التأمل والاحترام.

Port Arthur اليوم.. موقع تراث عالمي

في الوقت الحاضر، أصبح Port Arthur واحدًا من أهم المواقع المدرجة على لائحة التراث العالمي ضمن مجموعة مواقع السجناء الأسترالية.
يستقطب مئات الآلاف من الزوار سنويًا، ويوفر جولات صوتية وليلية ورحلات بالقوارب تكشف تفاصيل المكان من زوايا مختلفة.

إنه موقع يعيش على توازن دقيق بين الحفاظ على التاريخ، وتقديم تجربة تعليمية وسياحية فريدة.

للاستماع إلى أحدث التقارير الصوتية والبودكاست، اضغط على الرابط التالي.

أكملوا الحوار على حساباتنا على فيسبوك SBSArabic24 ومنصة X وانستغرام.

اشتركوا في قناة SBS Arabic على يوتيوب لتشاهدوا أحدث القصص والأخبار الأسترالية.

spk_0

في أقصى الجنوب الشرقي من تَسْمَانْيَا، وعلى بُعد ساعةٍ ونصف من هوبارت، تجد بقعةً هادئة اليوم، لكنها كانت قبل قرنين مسرحًا لنظامٍ عِقابيٍّ صارم، ولحكايات هروبٍ تكاد لا تُصدَّق.

spk_0

إنه بورت آرثر… موقعٌ لم تُبنَ تفاصيلُه ليكون مَعْلَمًا سياحيًا، بل ليكون درسًا في السيطرة والانضباط، في زمنٍ كانت فيه أستراليا وجهةً للسجناء الذين نُقِلوا من أنحاء الإمبراطورية البريطانية.

spk_0

حلقةٌ جديدة من مشوار، معي أنا ريان برهوم، ونحن اليوم أمام مدينةٍ صغيرةٍ ظاهريًا، لكن كلَّ حجرٍ فيها يحمل قصة.

spk_0

الطريقُ إلى بورت آرثر يمرُّ عبر غاباتٍ كثيفةٍ تنفتح فجأةً على خلجانٍ واسعةٍ ومياهٍ باردة. شبهُ جزيرةٍ محاطةٌ بالبحر من جهاتٍ ثلاث، ولكي تصل إليها لا بد أن تعبر رقعةً رفيعةً من اليابسة تُعرف باسم إيغل هوك نِك. هذا الموقعُ الطبيعي كان جزءًا من الخطة الأصلية للمستعمرة؛ مكانٌ معزولٌ تمامًا يتحوّل عند الليل إلى سجنٍ طبيعي.

spk_0

حتى إن السلطات البريطانية استخدمت سلسلةً من الكلاب الحارسة لمنع أي محاولة هروب، بحسب سجلات إدارة السجون في تَسْمَانْيَا. وهنا تبدأ ملامحُ عالمٍ مختلف… عالمٍ بُني ليستقبل الرجال الذين أرادت الإمبراطورية إبعادهم عن كل شيء.

spk_0

في عام ألفٍ وثمانمائةٍ وثلاثين، وصل فريقٌ صغير من الجنود والعمال إلى خليج ميسن كوف. كان الهدفُ بسيطًا في البداية: إنشاءُ محطةٍ لقطع الأخشاب، لأن غابات تَسْمَانْيَا كانت كنزًا نادرًا للخشب الصلب. لكن مع مرور الوقت تغيّر كل شيء؛ تحوّلت المحطة إلى مستعمرةٍ عِقابية رئيسية.

spk_0

المكان كان نائيًا بما يكفي لمنع الهروب، والموارد الطبيعية وفيرة بما يكفي لتشغيل السجناء في أعمالٍ مرهقة طوال النهار. تحوّل بورت آرثر تدريجيًا إلى سلسلة منشآت متكاملة: سجن مركزي، ورش لصناعة السفن، أفران الحدادة، مطابخ جماعية، مستشفى، وحتى مدرسة لتعليم القراءة والكتابة لبعض السجناء.

spk_0

ووفقًا لسجلات Port Arthur Historic Site، كان الهدفُ من هذا النظام إنتاجَ الانضباط من خلال العمل، وهو مفهومٌ عُرف في ذلك الوقت باسْم Industrial Discipline. كانت الحياة هنا واضحة: العمل… الصمت… النوم… ثم العمل من جديد.

spk_0

من بين جميع مباني بورت آرثر، يبقى Separate Prison أكثرها إثارةً للدهشة… وأكثرها قسوة. هذا السجن صُمّم في أربعينيات القرن التاسع عشر على نموذجٍ أمريكيٍّ يُعرف بـ "The Separate System"، وهو نظام يقوم على عزل السجين عن أي صوتٍ أو بشر: يُمنع من الكلام، يُمنع من رؤية الآخرين، يأكل وحده، يصلّي وحده، وحتى عند الانتقال يرتدي قناعًا يغطي وجهه.

spk_0

كان الاعتقاد السائد أن الصمت يُصلح الروح، لكن الواقع قال غير ذلك؛ فقد انهار كثيرٌ من السجناء نفسيًا وتدهورت صحتهم العقلية بسبب العزلة الطويلة. اليوم، عندما تقف داخل إحدى تلك الزنازين الضيقة، تشعر أن الجدران لا تزال تحتفظ بصدى أنفاس من مرّوا من هنا.

spk_0

تاريخُ بورت آرثر ليس تاريخَ عقوباتٍ فقط، بل هو أيضًا تاريخُ محاولاتِ هروبٍ جريئة. وأشهر من حاول ونجح هو مارتن كاش. وُلِد كاش في أيرلندا ونُقل إلى أستراليا بعد إدانته بالسرقة. لم يكن عنيفًا، لكنه كان مصمّمًا على استعادة حريته.

spk_0

في عام ألفٍ وثمانمائةٍ واثنين وأربعين، قرر الهروب من بورت آرثر عبر إيغل هوك نِك، وهو المكان الذي كان يُعد مستحيل المرور بسبب الكلاب والحراس.

spk_0

لكن كاش كان مراقبًا ممتازًا؛ درس تحركاتِ الحراس، واختار الليلة الأكثر ظلامًا، وتسلل مع صديقين عبر الغابة الرطبة. عبروا النِّك تحت المطر، وتجنّبوا الكلاب عبر السير في المياه الضحلة، ثم ركضوا لأميالٍ داخل الغابات حتى وصلوا إلى منطقة آمنة.

spk_0

تحوّل كاش بعدها إلى شخصيةٍ أسطورية، وكتب مذكّراته "مارتن كاش"، وهي من أهم المراجع حول الحياة داخل بورت آرثر. بورت آرثر ليس مكانًا مغلقًا بين جدران؛ إنه خليجٌ واسع تحيط به غاباتٌ كثيفة ومنحدراتٌ حجرية شاهقة.

spk_0

شمسٌ خفيفة تنعكس على الماء، ورياحٌ لا تهدأ آتيةٌ من الجنوب. اليوم يبدو المكان هادئًا، لكنه في القرن التاسع عشر كان جزءًا من العقاب؛ المحيط البارد، العزلة، والمسافة الوعرة كلها خلقت جدارًا طبيعيًا آخر حول السجناء.

spk_0

لا يكتمل الحديث عن بورت آرثر دون ذكر الحادثة الأليمة التي وقعت عام ألفٍ وتسعمائةٍ وستةٍ وتسعين. كانت مأساةً أثّرت في المجتمع الأسترالي بأكمله، حيث راح ضحيتها خمسةٌ وثلاثون شخصًا وأصيب آخرون. وأدّت إلى إصلاحٍ واسع لقوانين حيازة السلاح.

spk_0

الموقع اليوم يضم حديقةً تذكارية هادئة، مكانًا للتأمل، وتذكيرًا بمعنى السلام. اليوم يُعتبر بورت آرثر موقعًا تراثيًا عالميًا مُدرجًا في قائمة اليونسكو.

spk_0

المكان مفتوحٌ للزوار، ويقدّم جولاتٍ ذات طابعٍ قصصي، وقوارب تأخذك لمشاهدة الخليج والمنشآت من زاويةٍ مختلفة. تحوّلت المنطقة إلى إحدى أهم الوجهات التاريخية في أستراليا، وتستقبل مئات الآلاف من الزوار سنويًا.

spk_0

عندما تغادر بورت آرثر تدرك أن هذا المكان أبعد من أن يكون مجرد أطلال.

spk_0

إنه سجلٌّ مفتوح لمرحلةٍ مهمّة في تاريخ أستراليا؛ مرحلةٌ صعبة شكلت جزءًا من شخصية القارة الحديثة، وتركت أثرًا لا يمحى في ذاكرة البلاد. هنا بين البحر والغابات والمنشآت القديمة، يتقاطع الماضي القاسي مع الحاضر الهادئ، في موقعٍ يذكّرنا بأن فهم التاريخ جزءٌ أساسي من فهم المكان. كان هذا مشوارنا إلى بورت آرثر.

END OF TRANSCRIPT

شارك

تحديثات بالبريد الإلكتروني من أس بي أس عربي

.سجل بريدك الإلكتروني الآن لتصلك الأخبار من أس بي أس عربي باللغة العربية

باشتراكك في هذه الخدمة، أنت توافق على شروط الخدمة وسياسة الخصوصية الخاصة بـ "SBS" بما في ذلك تلقي تحديثات عبر البريد الإلكتروني من SBS

Download our apps
SBS Audio
SBS On Demand

Listen to our podcasts
Independent news and stories connecting you to life in Australia and Arabic-speaking Australians.
Personal journeys of Arab-Australian migrants.
Get the latest with our exclusive in-language podcasts on your favourite podcast apps.

Watch on SBS
Arabic Collection

Arabic Collection

Watch SBS On Demand