للاستماع إلى أحدث التقارير الصوتية والبودكاست، اضغطوا على الرابط التالي من لبنان إلى فلسطين وسوريا والعراق ومصر، تحضر الدبكة باختلاف مسمياتها كأرشيف حيٍّ لذاكرة الناس، وكفعلٍ جماعيٍّ يجمع الفخر والانتماء والفرح.
هي ليست مجرد رقصةٍ فولكلورية، بل لغة جسدٍ تُعبّر عن روح المكان وذاكرة الأرض. في استراليا كما في الوطن الام، يحاول الراقصون الحفاظ على هذه اللغة القديمة التي وُلدت من الطين واتصلت بالارض وصارت رمزا للهوية والذاكرة الجماعية بوصفها تراث لا مادي وحي.
من الطين إلى المسرح.. الدبكة اللبنانية أصل الحكاية
من قرى لبنان، تحوّلت الدبكة من عملٍ جماعي إلى عرض جماعي متناسق، من الطين إلى المسرح، ومن السطوح إلى مهرجانات بعلبك
ظلت الأكتاف متلاصقة ، الأيادي مشبوكة، والخطوات تعزف لحنها وتضبط ايقاعها كما يروي عاقوري.
الدبكة بدأت كعمل جماعيٍّ لتسوية الأسطح قبل أن تتحول إلى فنٍّ شعبيٍّ موحّد
إيلي عاقوري
يقول إيلي عاقوري، مؤسس فرقة أرز لبنان في أستراليا، إن جذور الدبكة اللبنانية تمتد إلى زمنٍ كان فيه الناس يصعدون إلى أسطح بيوتهم الطينية لرصّها بأقدامهم، موضحا أن "الحركة بدأت كعمل جماعيٍّ لتسوية الأسطح قبل أن تتحول إلى فنٍّ شعبيٍّ موحّد".
وأوضح أن "الشباب والصبايا كانوا يمسكون بأيدي بعضهم ويبدؤون بالدبك فوق التراب حتى يتماسك السقف، ومن هنا جاءت الكلمة".
وأشار عاقوري إلى أن تطور الدبكة من فعلٍ عمليٍّ إلى عرضٍ فنيٍّ منسّق يعكس روح التضامن الجماعي التي تميز المجتمع الجبلي في لبنان.
واستعاد بدايات عمله في تعليم الفلكلور منذ عام 1973 في أستراليا، مؤكدا أن "أكثر من 700 شاب وصبية مرّوا عبر فرقة أرز لبنان خلال العقود الماضية، وأسهموا في الحفاظ على هذا التراث في المهجر".
ELIE AKOURY RECEIVING OAM
ومضى الى القول أن "الإيقاع هو أساس النجاح"، مشيرا إلى أن التناسق بين أعضاء الفرقة شرطٌ أساسيٌّ ليخرج العمل ناجحا.أكثر من 700 شاب وصبية مرّوا عبر فرقة أرز لبنان منذ تأسيسها عام 1973
إيلي عاقوري
واضاف انّ الروح الجماعية "هي التي تمنح العرض الحياة"، مبينا أن تلاصق الأكتاف وتشابك الأيدي يرمزان إلى الوحدة، كما كانت الأقدام المتراصة تُصلّب السقوف الطينية في الماضي.
وأوضح عاقوري أن "الفلكلور اللبناني يتنوّع تبعًا للمناطق، فهناك "الدبكة الجنوبية، الزغرتاوية، البعلبكية، القروية، والهوارة"، لكن جميعها اجتمعت لتشكّل ما يُعرف اليوم بالفلكلور اللبناني الجامع.
اصبحت الدبكة في المهجر ارثا ثقافيا وثمة حراس يعرفون الاجيال بالامتداد الزمني الكبير لتلك الجذور الثقافية ويحفظون اسماءها وحركاتها ومدى ما تلعبه من دور في الحياة اليومية
ولفت عاقوري إلى أن الفنون الرحبانية لعبت الدور الأكبر في ترسيخ هذا التراث عبر الأغنية والمسرح، واصفًا الأخوين رحباني، فيروز، ووديع الصافي، وصباح بأنهم "حراس الذاكرة الغنائية اللبنانية".
وأشار إلى أن الفلكلور لا يعيش إلا إذا حظي برعاية الجيل الجديد، محذرا من تشويهه عبر العروض المبالغ فيها أو الحركات الغريبة على الطابع التقليدي. ووصف الموسيقى بأنها "همزة الوصل بين الشعوب"، مضيفا أن كل مجتمع يُعبّر عن ذاته عبر رقصاته وإيقاعه الخاص.
وختم مؤكدا أن الحفاظ على الفلكلور هو "حفاظ على الهوية قبل أن يكون مجرد فن".
The Cedars of Lebanon Folkloric group reviving the Lebanese heritage. Credit: Elie Akoury
الدبكة الفلسطينية .. من بناء البيوت إلى إعلان الانتماءتوصف الدبكة بانها اللغة الأولى للجسد… حيث تتحول الخطوة إلى جملة، والصرخة إلى نغمة.
ومن لبنان، تمشي الخطوة جنوبا وشمالًا … نحو فلسطين والأردن وسوريا
مؤسس فرقة جفرا في ملبورن أمين عباس، تحدث عن الدبكة الفلسطينية وكيف وُلدت في القرى أثناء بناء البيوت الطينية، حين كان الأهالي "يدعسون على الطين بأقدامهم لتماسك السقف".
وأكد أن تلك الخطوات كانت البداية الأولى لتكوين الرقصة الجماعية التي تحوّلت مع الوقت إلى طقسٍ فولكلوريٍّ متوارث من جيلٍ إلى جيل.
وأشار إلى أن الدبكة لم تكن مجرد وسيلة لبناء المنازل، بل رمزٌ للتعاون والفرح.
وشرح قائلا أن "الناس كانوا يغنّون أثناء العمل لتخفيف المشقة، ومع تكرار الإيقاع والغناء تحوّل الفعل العملي إلى فنٍّ له قواعد وأغانٍ مرافقة".
وأضاف أن كلمة "دبكة" نفسها مأخوذة من فعل "الدبك"، أي ضرب القدم على الأرض، ما يرمز إلى التثبيت والانتماء للأرض.
وبيّن عباس أن الدبكة اليوم تمثل جزءا من الهوية الفلسطينية، وتؤدى في الأعراس والمناسبات الوطنية ، وقال إن الدبكة "تجمع الناس حول إيقاعٍ واحدٍ أينما كانوا"، موضحا أنها أصبحت تُدرّس وتُمارس في المخيمات وفي دول المهجر على حدٍّ سواء. ووصف الفروقات بين المناطق الفلسطينية، مشيرا إلى أن "دبكة الجليل أسرع وأخفّ"، بينما في الضفة الغربية "أقوى وأعمق إيقاعا"، لافتا إلى أن المخيمات طوّرت أسلوبا موحّدا يجمع خصائص القرى والمدن".
واشار الى أن هذه التنوّعات لا تُضعف الهوية بل تثريها.
وتحدث عن الجيل الجديد في أستراليا قائلاً إن فرق الدبكة في المهجر، مثل جفرا في ملبورن تحاول الحفاظ على الشكل الكلاسيكي للدبكة فيما تمزج فرق اخرى مثل عتابة بين الحركات التقليدية والإضافات الحديثة لإبقاء التراث حيا. وقرن تطور الدبكة بتطور الموسيقى الفلسطينية، موضحا أن الأغاني الوطنية والشعبية الجديدة أسهمت في تحديث الأداء دون فقدان الأصالة.
ومن فلسطين إلى الأردن تمتد الرقصة نفسها بأسماء متعددة مثل الدحية في الجنوب، والسحجة، ودلعونا في الشمال في إيقاع واحد يربط القرى ببعضها .. كأن الأقدام ترسم خريطة لا تعرف الحدود.
من دبكات سوريا المتعددة إلى رموز آشور.. الجغرافيا تكتب موسيقاها
في سوريا، كما تتعدد اللهجات تتعدد الدبكات وكل منطقة تضرب الأرض بإيقاعها الخاص… كأن الجغرافيا تكتب موسيقاها.
الفنان فادي حنو تحدث عن تنوّع الدبكات السورية، مشيرا إلى أنها تختلف بتعدد المحافظات، وقال "لدينا الدبكة الحورانية والشامية والحموية والساحلية والديرية، وكل واحدة لها توقيت وعدد خطوات يميزها".
وأوضح أن هذا التنوع الإيقاعي يعكس غنى الجغرافيا السورية، حيث تعبّر كل منطقة عن نفسها بإيقاع الأرض التي تقوم عليها.
وأضاف أن حلب وإدلب تعرفان دبكات سريعة الإيقاع مثل البكارية والعداوية، بينما تمتاز الساحلية والطرطوسية بحركاتٍ أكثر نعومة، مستمدة من التراث الآشوري القديم.
ولفت إلى أن "الرقص في سوريا يشبه اللغة، كل منطقة تتكلم بإيقاعها الخاص، لكن المعنى واحد: الفرح والانتماء".
وفي الشمال الشرقي، وامتداد الى شمال العراق حيث تتقاطع الحكايات القديمة، ما زالت الدبكة الآشورية تحتفظ برموزها.
حركاتٌ تعبّر عن الشجاعة، عن الحصاد، وعن الحب أيضا.
ويقول سركون مارانو، رئيس فرقة آشور في ملبورن، إن الرقص الآشوري يحمل رموزا تمتد إلى آلاف السنين، قائلاً إن "رقصات الحرب كانت تُستخدم لرفع معنويات المحاربين"، في حين عبّرت رقصات أخرى عن الحب والحصاد والفرح. وأوضح أن لكل رقصة اسمها ومعناها، مثل "باشو" التي تمثل الحب الوحيد، و"خازاده" التي ترمز إلى الفرح العام، و"قَلّه" التي تُؤدى في أوقات الفيضان والربيع.
ووصف الرقص الآشوري بأنه "أرشيفٌ حيٌّ لذاكرة الرافدين"، مشيرا إلى أن كل حركة فيه تُعيد رواية قصة إنسانٍ عاش على هذه الأرض منذ فجر التاريخ. ومضى إلى القول إن فرقة آشور التي تأسست عام 2017 تضم شبابا وبنات يشاركون في مهرجانات الجاليات والبلديات في ملبورن، حفاظا على هذا التراث من الاندثار. وختم مؤكداً أن "الدبكة الآشورية ليست مجرد عرضٍ فني، بل وثيقة وجودٍ في بلادٍ تتعدد فيها الأصوات واللهجات".
من سيناء إلى الصعيد.. للدبكة المصرية ملامح مختلفة
في مصر، وتحديدا في سيناء، هناك رقصةً تشبه الدبكة الشامية في روحها الجماعية، لكنها مصرية في ملامحها.
وعنها يحدثنا استشاري الطباعة والنشر الفنان طارق عيسى الذي أشار الى ان الدبكة السيناوية هي "إحدى أهم صور التراث الشعبي المصري"، ماضيا الى القول إنها امتدادٌ طبيعيٌّ للدبكات المنتشرة في بلاد الشام، لكنها اكتسبت خصوصيتها البدوية.
وأوضح أن الرقصة تعتمد على "تسحيجات" الإيقاع وتصفيق المشاركين، ويقودها عادة العازف على المجوز بينما يشارك مغنٍ وفتاة في حوارٍ شعريٍّ متبادلٍ أمام الجمهور.
الدبكة السيناوية أمتدادٌ طبيعيٌّ للدبكات المنتشرة في بلاد الشام لكنها اكتسبت خصوصيتها البدوية
طارق عيسى
وأشار إلى أن هذا اللون الفني يجسّد التفاعل بين الشعر والحركة، موضحا أن البدو استخدموا الرقص والغناء للتعبير عن الفخر، والحب، والتحدي.
وقرن ذلك بفنون أخرى مثل "الحجالة" و"كف العرب" المنتشرة في الواحات الجنوبية، حيث ترقص امرأة واحدة بين فريقين من الشعراء المتبارين.
وفي الجنوب، تمتزج الرقصة بالشعر والغناء في منافسة بين المغني والفتاة، تماما كما تتنافس الريح والرمل في أغاني الصحراء.
وتحدث عيسى عن "التحطيب" في صعيد مصر، واصفا إياه بأنه فنٌّ قتاليٌّ مصري تحوّل إلى رقصةٍ شعبية.
وقال إن التحطيب كان رمزا للمقاومة في مواجهة الاستعمار، قبل أن يصبح جزءا من الأعراس والمهرجانات الشعبية في الأقصر. وبيّن أن مصر، بتنوع بيئاتها، جمعت في تراثها كل أشكال التعبير الحركي التي تعكس وحدة الإنسان والأرض.
العراق.. الجوبي لعب ولغة لقاموسها ايقاع لا يكسر
للعراقيين لغتهم في الحديث مع الارض وعلى انغام المجوز والطبل حيث تصحو ثورة الجسد من خلال أداء حركي فياض ، شيء أشبه بالتفاف جماعي في حركة اقدام لقاموسها قوانبن لا تكسر
من الأنبار إلى الموصل، ومن الجنوب إلى الشمال، تتعدد الرقصات الجماعية وتبقى "الجوبي" أشهرها.
العراقيون يقولون نلعب جوبي لان اللعب يمنحهم مساحة أوسع من الرقص واللاعبون يطلق عليهم الجوابة ويقودهم الاكبر او الاكثر وجاهة
مؤيد بلاسم
وهناك لا يقولون "نرقص"، بل "نلعب جوبي"، بحثا عن حرية اوسع ، وفيه فخرٌ وتحدٍ.
يقول الباحث في التراث الشعبي وأستاذ اللغة العربية في جامعة كوينزلاند مؤيد بلاسم إن الجوبي يمثل أحد أقدم أشكال الرقص الجماعي في العراق، موضحا أن العراقيين لا يقولون "نرقص" بل "نلعب جوبي"، لأن اللعب أوسع من الرقص، ويعني المشاركة الجماعية والفخر بالهوية.
وأشار إلى أن الجوبي يتكوّن من حلقة شبه دائرية من عشرة إلى خمسة عشر شخصا، يتشابكون بالأيدي ويضربون الأرض بأقدامهم بقوة مصحوبة بإيقاع الطبل والدف.
واوضح أن من يقود الحلقة يُسمى "الجوّاب"، وغالبا ما يكون الأكبر سنا أو الأوجه اجتماعيا، ويمسك منديلا أو سبحة ويدير الحركة بإشارةٍ أو هتاف زوالراقصون معه يسمون "الجوابة".
ومضى الى القول إن الضرب على الأرض "رمزٌ لتوقيع الانتماء وتأكيد الوجود"، مبينا أن بعض الباحثين يرجعون أصل الاسم إلى "الجوبة" أي الساحة الواسعة، فيما يرى آخرون أنه مرتبط بقبيلة كردية قديمة.
وأشار إلى أن هناك من يرجع الجوبي الى طقس سومري قديم كان يُؤدى لاستدعاء الإله تموز وإيقاظه من سباته، إذ كانت الأرجل تُضرب على الأرض طلبا للخصب والنماء.
وقرن الباحث مؤيد بلاسم هذا الطقس بالممارسات القبلية الحديثة التي ما زالت تعبّر عن الفخر والكرامة. ووصف الجوبي بأنه "لغة جسدٍ تمتزج فيها الحماسة بالحنين"، لافتا إلى أن إيقاعه أبطأ من الدبكة الشامية او الدبكات الكردية في كردستان العراق لكنه أكثر عمقا وقوة في ضرب الأرض.
ولفت إلى أن الجوبي لا يزال يُؤدى في الأعراس والمناسبات الوطنية، بل أصبح جزءًا من عروض المسرح الفلكلوري العراقي.
وختم مؤكداً أن "كل ضربة قدم في الجوبي تكتب سطرا جديدا من قصة العراقيين مع الأرض، من الجنوب إلى الشمال".
إيقاع لا يعرف الحدود
من لبنان إلى فلسطين وسوريا ومصر والعراق، تتنوع الأسماء واللهجات والإيقاعات، لكن المعنى واحد. فالدبكة او الجوبي او غيرها من المسميات ليست مجرد رقصةٍ جماعية، بل ذاكرة جماعية تنبض بالحياة.
هي حكاية الإنسان مع الأرض التي رقص عليها، وعليها أيضا كتب تاريخه بخطى متكرّرة.
هي لغةٌ لا تُكتب بالحبر، بل بالتراب، حين تتحول الخطوة إلى جملة، والجسد بحركته الرشيقة إلى قصيدةٍ تُنشدها الأقدام.
للاستماع إلى أحدث التقارير الصوتية والبودكاست، اضغطوا على الرابط التالي.