بين أروقة الصحافة وأزيز الطائرات الحربية، عاش عاطف محمود عيسى تفاصيل الحرب في غزة ليس كصحفي فقط، بل كإنسان حمل همّ الحقيقة، وهمّ حماية من لجأوا إلى منزله بحثًا عن الأمان. ومع إدراكه أن الصحفيين كانوا في دائرة الاستهداف، كان يختار أن يبيت بعيدًا عنهم حتى لا يتسبب في إيذائهم عن غير قصد.
بدأت رحلة عاطف الصحفية عام 1985 في الكويت، قبل أن يعود في تسعينيات القرن الماضي إلى غزة، حيث أسس شركة إعلامية نقلت أحداث القطاع إلى كبريات الشبكات العالمية. على مدى عقود، وقف شاهدًا على حروب متتالية، لكن الحرب الأخيرة كانت الأشد قسوة، إذ حصدت أرواح آلاف الغزيين، بينهم العديد من زملائه الصحفيين.
بعد تدمير مكتبه، واصل عمله متنقلًا بين مواقع مختلفة، إلى أن اضطر للبث من منزل شقيقه، ثم من بيته، الذي تحول إلى مأوى ضم 45 من أقاربه وأصدقائه. يقول:
لم أكن أتخيل أن نعيش هذه الدرجة من الخوف… لم يكن الموت يهدد الصحفيين فقط، بل عائلاتهم أيضًا.
ورغم حبه العميق لغزة، كان عليه اتخاذ قرار صعب: الرحيل. عبر مصر، وصل إلى أستراليا مع زوجته وأبنائه الثلاثة وزوجاتهم، باحثًا عن الأمان، وحاملًا في قلبه ذاكرة مدينته. وفي ملبورن، قرر أن يفتح صفحة جديدة من حياته، فأنشأ مع عائلته مقهى "كيف"، الذي يقدم القهوة الفلسطينية وأطباق المطبخ الشرقي، ويعمل فيه أبناء غزة ممن لهم خبرة في الضيافة.
يقول عاطف:
أريد أن أُصدّر إلى العالم الوجه الجميل لفلسطين
وهكذا، لم يعد يكتب الأخبار بالحروف، بل يروي حكاية بلاده بالنكهات، بالصور، وبالديكور الذي يعكس دفء البيوت الفلسطينية.
من شوارع غزة التي كانت تمتلئ بصوت القصف وصدى الحقيقة، إلى شوارع أستراليا التي تعبق برائحة البن… لم يتخلَّ عاطف محمود عيسى عن رسالته، لكنه غيّر أدواتها. ترك الكاميرا والقلم، وأمسك بفنجان قهوة يقدمه بابتسامة، ليقول للعالم إن فلسطين ليست فقط أخبار الحروب، بل هي ضيافة ودفء وذاكرة لا تموت.