مشوار إلى سوفرين هيل: عودة إلى القرن التاسع عشر حيث بدأ "هيستيريا الذهب" في أستراليا

Unidentified people, buildings and stage coach on Sovereign Hill, rebuilt gold digger village and preferred tourist attraction, Ballarat, Victoria. Credit: fotofritz16/Getty Images
في ولاية فيكتوريا، وعلى بُعد ساعة ونصف من ملبورن، تقع بلدة بالارات، التي كانت يومًا ما مسرحًا لهوس الذهب الذي غيّر وجه أستراليا إلى الأبد. في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ الحلم من هنا، عندما اكتُشف الذهب عام 1851 لتتحوّل هذه الأرض الهادئة إلى مقصد للمغامرين والمنقّبين من كل أنحاء العالم، في ما عُرف آنذاك بـ “هستيريا الذهب الأسترالية”.
spk_0
على بُعد ساعةٍ ونصف فقط من مدينة ملبورن، تبدأ رحلةٌ إلى الماضي، إلى زمنٍ كان فيه كلُّ حلمٍ يبدأ بلمعةٍ صغيرةٍ في التراب.
spk_0
مشوارٌ جديدٌ معي أنا ريان برهوم، إلى مدينة بالارات، وتحديدًا إلى متحفٍ حيٍّ يُعيدنا إلى عام ألفٍ وثمانمائةٍ وواحدٍ وخمسين، إلى سوفرين هيل، حيث وُلدت "هستيريا الذهب" في أستراليا.
spk_0
حين تصل إلى البوابة، أوّلُ ما يلفتُ نظرك هو الدخانُ المتصاعد من مداخن الطوب، ورائحةُ الخبزِ الطازج من مخبزٍ قديم. الشوارعُ مرصوفةٌ بالتراب، والناسُ يرتدون أزياءَ القرن التاسع عشر: نساءٌ بفساتين طويلةٍ، ورجالٌ بقبّعاتٍ جلديةٍ، ووجوهُهم مغبّرةٌ كأنهم خرجوا للتوِّ من المنجم.
spk_0
تسيرُ بضعَ خطواتٍ فتجدُ نفسك في شارع "مين ستريت" الذي يُشكّل قلبَ سوفرين هيل النابض بالحياة. على اليمين محلٌّ للصياغة يعرضُ قطعَ الأوبال والذهب، وعلى اليسار حدّادٌ يطرقُ الحديدَ والشررُ يتناثرُ حوله. بالقرب منك أطفالٌ يركضون بحماسٍ نحو مجرىً مائيٍّ صغيرٍ يُسمّى منطقةَ البحث عن الذهب.
spk_0
هناك، حيث يمكن لأيّ زائرٍ أن يُجرّب حظَّه بالبحث عن الذهب. تمسكُ المقلاةَ المعدنية، وتغمرُها بالماء، تُقلبُ الطين، ثمّ تلمحُ بريقًا صغيرًا في القاع… لحظةٌ لا تُنسى، تُشعرك بأنّك أحدُ منقّبي القرن التاسع عشر حقًّا.
spk_0
لكنّ المغامرةَ لا تتوقّفُ عند السطح. تنزلُ عبر ممرٍّ ضيّقٍ إلى منجم "ريد هيل". هناك تبدأُ جولةً تحت الأرض في أنفاقٍ صخريةٍ مضاءةٍ بمصابيحَ خافتة. دليلُ الجولةِ يروي قصصَ عمّالِ المناجم: كيف كانوا يقضون ساعاتٍ طويلةً في ظلامٍ دامسٍ مقابلَ أملٍ ضئيلٍ بحبيبةِ ذهبٍ واحدة. بين الصدى والرطوبة، تشعرُ بثقلِ التاريخ فعلًا.
spk_0
فوق الأرض، تمتدُّ الحياةُ كما كانت قبل أكثرَ من مئةٍ وسبعين عامًا. متجرُ الشموع، دارُ الطباعة القديمة، مدرسةٌ صغيرةٌ فيها مقاعدُ خشبيةٌ وسبّورةٌ سوداء، ومبنى البريد حيث يمكنك أن تكتبَ بطاقةً وتختمَها بختمٍ أصلي. كلُّ شيءٍ هنا حيٌّ ومتحرّك، لا تماثيلَ ولا زجاجًا عازلًا، بل أشخاصٌ يعيشون شخصياتِهم بكلِّ تفاصيلها.
spk_0
وفي المساء، عندما يهبطُ الظلامُ على المدينة، يتحوّلُ المكانُ إلى مسرحٍ مفتوحٍ لعرضٍ بصريٍّ مذهل. إنّه عرضُ "أُورا" للصوتِ والضوء، تجربةٌ مدّتُها ساعةٌ ونصف، تحكي قصةَ اكتشافِ الذهب وصعودِ بالارات، من حلمِ الثراءِ إلى تمرّد "يوريكا ريبيلين" الشهير، أولِ حركةِ احتجاجٍ ديمقراطيةٍ في تاريخِ أستراليا.
spk_0
بين الأضواءِ والمؤثرات، تعيشُ تلك الأحداث وكأنك أحدُ شهودها.
spk_0
عظمةُ هذا المتحفِ الحيّ لا تقتصرُ على الماضي فقط، فاليومَ يُعَدّ سوفرين هيل من أبرزِ المعالمِ السياحيةِ في ولاية فيكتوريا، وواحدًا من أهمِّ المتاحفِ المفتوحةِ في العالم. بلدةُ بالارات تجذبُ ملايينَ الزوّار سنويًا.
spk_0
ويُقدّر أنَّ المتحفَ يستقبلُ حوالي أربعمائةٍ وخمسينَ ألفَ زائرٍ كلَّ عامٍ، ويساهمُ بملايينِ الدولاراتِ في الاقتصادِ المحلي. الزيارةُ هنا لا تحتاجُ إلى ترتيباتٍ معقّدة؛ فبوابةُ الدخولِ مفتوحةٌ من الساعةِ العاشرةِ صباحًا حتى الخامسةِ مساءً، من الثلاثاءِ إلى الأحد، ويومُ الاثنين مخصّصٌ للمجموعاتِ المدرسيةِ فقط.
spk_0
تكلفةُ الدخولِ العامةِ للبالغين تبدأُ من اثنين وخمسينَ فاصلَ خمسينَ دولارًا أستراليًّا تقريبًا. الوصولُ سهلٌ بواسطةِ السيارةِ أو الحافلةِ من مدينةِ ملبورن، أو عبر القطارِ إلى بالارات، ثمّ التنقّلِ المحليِّ إلى المتحف.
spk_0
في الليل، يخفتُ صوتُ المدينة، وتبقى الأنوارُ تتلألأ على واجهاتِ المتاجرِ الخشبية. تنظرُ حولك وتشعرُ أنَّ الماضي لم يرحلْ بعد، بل ما زالَ هنا، في رائحةِ التراب، في ضحكاتِ الزوّار، وفي قصصِ المنقّبين الذين جعلوا من حفنةِ ترابٍ بدايةَ حلمٍ. مشوارٌ إلى سوفرين هيل ليس زيارةً لمتحفٍ فحسب، بل رحلةٌ في الزمن.
spk_0
إلى لحظةٍ صاغت ملامحَ أستراليا الحديثة، من شمسِ بالارات الذهبية إلى أعماقِ مناجمِها المظلمة. هذا المكانُ يُذكّرك أنَّ الذهبَ الحقيقي ليس ما يُستخرجُ من الأرض، بل ما يتركُه الإنسانُ فيها من حكاياتٍ لا تموت.