لا تطهو رشا فقط، بل اختارت أن تُعيد تقديم سوريا بطبق، أن تُعلّم الآخرين أن ما يُسمى "نكهات شرق أوسطية" له أسماء، وجذور، وأصوات نساء في المطابخ العتيقة.
Syrian chef Racha Abou Alchamat
من بين روائح المطبخ الشامي وتفاصيل الطفولة المتوارية في زوايا الذاكرة، خرجت رشا أبو الشامات في رحلة شخصية من دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، إلى الإمارات ثم أستراليا، حاملة معها ما هو أكثر من وصفات: كانت تحمل نكهة وطن وهوية طُمست بين المنافي.
تقول رشا:
"لم أكن أعلم أن كل تلك التفاصيل الصغيرة كانت نائمة بداخلي. لحظة واحدة كانت كافية لتُعيدني طفلةً في بيت والدي، محاطة بروائح الطعام وأصوات العائلة."
بدأت الحكاية فعليًا عام 2017، حين قررت إعداد طبق "حرّاق بأصبعو" لمهرجان مدرسي في سيدني، ضمن احتفالية Moon Festival. لم يكن ذلك الطبق مجرّد مشاركة في حدث محلي، بل لحظة فارقة.
كان طبق "الحرّاق باصبعه" بمثابة مفتاح استعاد ذاكرتها التي كانت نائمة، وأعادها إلى زمن الطفولة، حيث كانت تقف إلى جوار والدها في مطبخ العائلة الدمشقي، تراقبه وهو يُعدّ أقراص الكبة، تراه يعمل بشغف، وهي تحفظ دون أن تدري، تفاصيل ستُشكّل لاحقًا هويتها الجديدة.
تقول رشا:
كان ذلك الطبق بوابة أعادتني إلى البيت... إلى رائحة المطبخ، إلى صوت أبي وهو يقول: تعالوا تذوّقوا... كل شيء عاد الى ذاكرتي دفعة واحدة
وصلت رشا، الزوجة والأم لطفلين، إلى أستراليا عام 2014 قادمة من الإمارات، لتستقر مع عائلتها في ضاحية "تشاتسوود" التي يغلب عليها الطابع الآسيوي. هناك شعرت بأنها غريبة مرتين: غربة عن وطنها، وغربة داخل مجتمع جديد لا يشبهها ثقافيًا.
في ذلك الجو المشحون بالحنين، بدأت رحلتها في إعادة اكتشاف الذات عبر المطبخ. لم يكن الطبخ بالنسبة لرشا مجرد نشاط يومي، بل فعل وجود، ووسيلة للمقاومة الثقافية اذ تقول:
"شعرت أنني غريبة عن كل شيء، حتى عن نفسي. لكن حين أعددت طبق 'الحرّاق بأصبعو'، شعرت أن شيئًا في داخلي قد استيقظ."
اختارت رشا أن تُعيد تقديم سوريا بطريقتها، عبر الأطباق، النكهات، والحكايات. قررت أن تُعلّم الآخرين أن ما يُسمّى "نكهات شرق أوسطية" ليس مجرد تصنيف تجاري، بل مطابخ ذات أسماء، وجذور، وأصوات لنساء صنعن التاريخ من وراء الأبواب المغلقة.
رشا التي اكتشفت ان ما تقوم به لا يقتصر على الطهو، تقول:
"لم أكن أعلم أن الطعام قد يكون شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية. لكن عندما رأيت كيف تُخلط المطابخ كلها تحت مسمّى واحد، شعرت أن من واجبي أن أقول: هذه أكلة سورية، وهذه قصتها."
في مطبخها، لا مكان للمنتجات الجاهزة. تبدأ كل شيء من الصفر: صلصة البندورة، العجين، البهارات، وحتى طرق التقديم، اذ تقول:
"الناس يشعرون بذلك. يشعرون حين يكون الطعام مصنوعًا بنَفَس صادق. حتى إن لم يعرفوا اسمه، فإن الطعم يتحدث عن نفسه."
أما دخولها عالم الطبخ، فكان بالنسبة لها استجابة باطنية لحلم والدها اذ تقول:
"كان والدي يحلم أن تسلك إحدى بناته طريقه. كنت أساعده وأنا طفلة، لكنني لم أتخيّل يومًا أن أكون أنا من يقف مكانه."
تحوّلت المائدة التي كانت تجمع العائلة في دمشق، إلى منصة ثقافية في أستراليا. رشا لم تكتفِ بطبخ الأكلات الشامية، بل بدأت هذا العام بإعطاء دروس طبخ، تُدرّس فيها الوصفات كما تُروى الحكايات.
وعندما تُسأل عن "ملك الأطباق السورية" في أستراليا، تضحك وتقول:
"ربما ورق العنب هو الملك، لكن الملوخية هي الملكة في قلبي. لأنني لا أنسى سندويش الملوخية الذي كانت تعدّه لي أمي، بالكزبرة والثوم، ورائحة البيت التي ما زالت عالقة في ذاكرتي."
اليوم، تقود الشيف رشا أبو الشامات معركةً لطيفة كما تصفها، لكنها عميقة. معركة للحفاظ على الهوية، عبر الطعام والذاكرة. تنقل المطبخ السوري بأمانة وشغف إلى مجتمع جديد، وتزرع في أذهان أبنائها وجيل من المغتربين معنى مختلفًا للأكل قائلة:
إن الطعام ليس مجرّد وجبة... بل رحلة الى وطن في طبق
فهل يمكن لطبق مثل "حرّاق بأصبعو" أن يُعيد رسم خريطة الذاكرة والانتماء... انطلاقًا من دمشق، أقدم عاصمة في العالم؟
الإجابة في الملف الصوتيّ أعلاه.
استمعوا لبرنامج "Good Morning Australia" من الاثنين إلى الجمعة من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحا بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق SBS Audio المتاح مجاناً على أبل وأندرويد.وعلى القناة 304 التلفزيونية.