في قلب الشرق الأوسط، هناك منطقة صغيرة من حيث المساحة… لكنها كبيرة من حيث الأهمية. منطقة يتقاطع فيها الجغرافيا بالتاريخ، والسيادة بالأمن، والسياسة بالهوية.
مرتفعات الجولان ليست مجرد تلال خضراء ووديان عميقة، بل واحدة من أكثر المناطق حساسية في الصراع العربي الإسرائيلي.
احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967، وضمتها لاحقًا في خطوة رفضها العالم بأسره… لكن واقع الأرض تغيّر، والسنوات مرّت، والصراع لم يُحسم.
في هذه الحلقة من وراء الخبر، سنحكي لكم قصة مرتفعات الجولان ولماذا بقيت نقطة اشتباك سياسي وعسكري لعقود. ماذا حدث فيها بعد ضعف الدولة السورية؟ ولماذا لم تُسترد كما حدث مع سيناء في مصر؟
تقع مرتفعات الجولان في الركن الجنوبي الغربي من سوريا، وتُطل على وادي نهر الأردن وبحيرة طبريا من الجنوب، وتحدّها لبنان من الشمال وفلسطين التاريخية من الغرب.
تمتد هذه المرتفعات على مساحة تُقدّر بحوالي 1,800 كيلومتر مربع، وهي منطقة جبلية ذات طبيعة خلابة، ولكنها – في الوقت ذاته – ذات أهمية استراتيجية بالغة، مما جعلها محورًا لصراعات إقليمية منذ عقود.
ما الذي يجعل الجولان بهذه الأهمية؟
الجواب يكمن في موقعها الجغرافي وارتفاعها.
فبفضل تضاريسها المرتفعة، توفر الجولان إشرافًا واسع النطاق على الأراضي المنخفضة المحيطة بها، لا سيما شمال إسرائيل وجنوب سوريا، ما يجعلها نقطة مراقبة عسكرية حيوية.
كما أن الجولان مصدر رئيسي للمياه في المنطقة، إذ تغذي روافدها نهر الأردن وبحيرة طبريا، اللتين تمثلان شريانًا مائيًا بالغ الأهمية في بيئة تعاني من شُح الموارد.
تاريخيًا، كانت الجولان جزءًا من الأراضي السورية. ولكن في عام 1967، وخلال حرب الأيام الستة، سيطرت إسرائيل على معظم مرتفعات الجولان من سوريا.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه الأرض نقطة خلاف جوهري في النزاع العربي الإسرائيلي.

Israeli soldiers stand near tanks near the border with Syria on the Israeli side of the border on December 9, 2024 in Golan Heights. Credit: Amir Levy/Getty Images
لكن لماذا استمرت الأزمة؟
من وجهة نظر سوريا، الجولان أرض محتلة يجب استرجاعها. ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن الجولان يمثل عمقًا دفاعيًا لا يمكن التنازل عنه في ظل التوترات الأمنية التي تشهدها المنطقة.
أما على الصعيد الدولي، فلم تعترف أي دولة بسيادة إسرائيل على الجولان – باستثناء الولايات المتحدة في عام 2019، حين وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إعلانًا يعترف بالجولان كأرض إسرائيلية.
وقد أثار هذا الإعلان جدلًا واسعًا في الأوساط الدولية، معتبرين أنه يكرّس سياسة فرض الأمر الواقع ويتجاهل القانون الدولي.
لماذا استردت سيناء ولم تسترد الجولان؟
تشبه قضية الجولان إلى حد كبير قضية سيناء المصرية، التي احتلتها إسرائيل كذلك عام 1967، لكنها أُعيدت لمصر بعد مفاوضات طويلة توّجت باتفاقية كامب ديفيد. لكن، بخلاف سيناء، لم تُثمر أي مفاوضات سورية إسرائيلية عن اتفاق، وتوقف الحوار منذ أكثر من عقدين.
لكن ما زاد الوضع تعقيدًا في الجولان هو ما جرى بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وتفكك سلطة الدولة المركزية. فقد تراجع وجود جيش النظام السوري في الجنوب، وبرزت جماعات مسلحة، بعضها مدعوم من إيران وحزب الله، في المناطق المحاذية للجولان.
هذا التطور دفع إسرائيل إلى تعزيز وجودها العسكري والاستخباراتي هناك، بذريعة حماية أمنها من "الفراغ السوري" وخطر الميليشيات.
تحوّل الجولان عمليًا إلى منطقة أمنية متقدمة لإسرائيل، ونُفّذت فيه ضربات جوية متعددة استهدفت مواقع سورية وإيرانية، في ظل غياب أي ردع سياسي أو عسكري فعّال من الطرف السوري المنهك بالحرب.
وهكذا، أصبح الجولان في مرحلة ما بعد الأسد أكثر التصاقًا بإسرائيل، من دون أي مسار تفاوضي جاد لاستعادته.
اليوم، يعيش في الجولان حوالي 50 ألف نسمة، معظمهم من الدروز العرب السوريين، الذين يرفض الكثير منهم الجنسية الإسرائيلية رغم مرور أكثر من خمسين عامًا على الاحتلال، ويواصلون التأكيد على هويتهم السورية.
وفي الوقت نفسه، قامت إسرائيل ببناء مستوطنات عدة في الجولان، يعيش فيها حوالي 25 ألف مستوطن يهودي، في ظل دعم حكومي لتوسيع النشاط الاستيطاني.
تشهد الجولان كذلك تطورًا في البنية التحتية، خاصة في مجال الزراعة وتربية المواشي، مستفيدة من خصوبة التربة ومصادر المياه الوفيرة. كما بدأ استغلالها في السياحة، حيث تُعرض مناظرها الطبيعية ومزارعها ومنتجعاتها كمواقع جذب سياحي.
ورغم الهدوء النسبي في السنوات الأخيرة، تبقى الجولان منطقة توتر كامنة.
تشير المقارنة بين الجولان وسيناء إلى أن الاحتلال لا يُزال بالزمن، بل بالإرادة السياسية. فإذا كانت مصر قد استعادت سيناء بفضل اتفاقية سلام، فإن سوريا، في ظل انقسامها الداخلي وغياب تأثيرها الإقليمي، تبدو اليوم بعيدة عن تحقيق الهدف ذاته.
في نهاية المطاف، تبقى مرتفعات الجولان شاهدًا على تحوّلات كبرى في تاريخ المنطقة، من صراع حدودي إلى صراع سيادة، ومن معادلات الحرب إلى معادلات القوة.
وبينما ينشغل السوريون بإعادة بناء ما تهدّم، تبقى الجولان أرضًا معلّقة بين الواقع والحق، وبين القانون الدولي وموازين القوة.