السابع من أكتوبر لم يكن مجرد حدث سياسي أو أمني، بل لحظة مظلمة غيّرت مسار حياة آلاف العائلات، مثل عائلة حنين السماك التي اختارت ان تخرج من بين الأنقاض لتشهد لانتصار الحياة.
مع حلول الذكرى الثانية تطل الذكرى الثانية لأحداث السابع من أكتوبر 2023، اليوم الذي فتح أبواب الجحيم ، ومع دخول الحرب عامها الثالث، تعود حنين السمّاك بالذاكرة الى ذاك اليوم لتعانق ما مات فيها في حرب شرّدتها وسرقت منها الأرض ومن هم أغلى من الأرض.
في مثل هذه اليوم انطلقت شرارة عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس، مخترقة بذلك "القبة الحديدية" الإسرائيلية، مشنّة حربًا دموية غير مسبوقة في المنطقة.
حرب دمويّة تسببت في أسر أكثر من 200 إسرائيلي على أيدي حماس، مقتل 1250 شخصًا من الجانب الإسرائيلي وأكثر من 60 ألف فلسطيني، لتتحوّل الأزمة إلى مأساة إنسانية كارثية.
تعود حنين السماك الى لحظة المغادرة الأصعب " إن أصعب قرار اتخذته كان مغادرة غزة؛ هذه المدينة الصغيرة في مساحتها، الكبيرة في انتمائها".
"لأننا نحب الحياة": من تحت القصف في غزة إلى بداية جديدة في أستراليا
"غادرتُ غزة بجسدي، لكن روحي لا تزال هناك"، بهذه الكلمات تلخص حنين السماك، الناشطة المجتمعية الفلسطينية، واحدة من أكثر التجارب قسوة وإيلامًا يمكن أن يعيشها إنسان.
من شوارع غزة المفعمة بالحياة رغم الحصار، إلى رحلة الهروب من تحت القذائف، ثم الوصول إلى أستراليا، كانت الرحلة أشبه بولادة جديدة، مغمسة بالدموع والخوف والتحدي، لكنها أيضًا محملة بالأمل.
ما قبل السابع من أكتوبر: غزة التي أحببناها
قبل اندلاع الحرب الأخيرة في أكتوبر، كانت حنين تعيش حياة نشطة وفاعلة في شمال غزة، مع زوجها وبناتها الثلاث: حلا، حور، وحبيبة.
"رغم الحصار، كنا نحب الحياة ونصنع الفرح. بيتنا كان قريبًا من البحر، والمقاهي تمتلئ بالموسيقى، وفي رمضان كانت غزة تتحول إلى مهرجان من الضوء والبهجة"، تقول حنين.
"البيت، العمل، الأهل… كل شيء فقدته"
خسرت حنين السمّاك التي كانت تعمل كمديرة لمؤسسة مجتمعية، وعضوًا في لجنة الحي، وناشطة في دعم النساء وذوي الإعاقة .
مع بدء الحرب، تبدّل كل شيء. تقول حنين السمّاك:
"فقدت بيتي، عملي، وأفرادًا من عائلتي. لدي 12 شهيدًا من الأقارب والأصدقاء. كل يوم كنت أسمع قصصًا عن الجوع والموت، وكنت أعيش الخوف على بناتي كل لحظة".
تقف عند قرار المغادرة الأصعب فتقول: "أصعب لحظة كانت عندما أخبرني أصدقائي أن معبر رفح قد يُغلق بأي لحظة. كنت ممزقة بين البقاء والرحيل. لكن خفت على بناتي، واتخذنا القرار".
غادرت حنين غزة خوفًا على بناتها الثلاث: حلا، حور، وحبيبة. لم يكن قرار الرحيل سهلًا، بل كان مليئًا بالمخاطر، خاصة أن الخروج تم تحت القصف، وقبل أربعة أيام فقط من إغلاق المعبر.
خرجت حنين وعائلتها من غزة وسط القصف، بعد أن تنقلوا بين خمس مناطق نزوح، "آخرها دكان صغير بلا حمام أو كهرباء" اذ تقول:
"كنا نضطر للخروج في الظلام وسط القذائف فقط لنستخدم حمامًا خارجيًا"؟
الوصول إلى أستراليا: البداية رغم الألم
خرجت حنين من غزة، لكن غزة لم تخرج يومًا من قلبها. مضت إلى أرض بعيدة، إلى أستراليا، برفقة زوجها، بناتها، وشقيقتها لتترك وراءها أمًا مسنة تبلغ من العمر 80 عامًا، وعائلة بأكملها بين الحياة والموت في غزة.
تقول حنين: "لم نكن نتوقع شيئًا، فقط كنا نريد الأمان. لكن فور وصولنا إلى أستراليا، استقبلنا أناس فتحوا لنا قلوبهم قبل بيوتهم".
بعد أربعة أيام فقط من وصولهم، بدأت حنين بالتطوع. "قلنا لأنفسنا: لن نبقى ضحايا. نحن نحب الحياة، ونريد أن نكملها. لم نأتِ إلى هنا لنختبئ، بل لننخرط".
تتحدّث حنين بفخر يفيض من صوتها كلما ذكرت بناتها الثلاث، وهن يبدأن رحلة جديدة في أرض بعيدة. حلا تعزف الإيقاع في فعاليات موسيقية محلية، وقد وجدت في الموسيقى متنفسًا وحضورًا يعيد إليها بعضًا من نغمة الحياة. حور انضمت إلى فرقة دبكة فلسطينية تحمل اسم "فرقة الدحنون"، وكأنها ترقص تراثها فوق المسافات. أما حبيبة، فقد خاضت بطولة كاراتيه ورفعت الميدالية الذهبية بكل قوة وثقة، وكأنها ترفع راية الأمل في وجه المنفى. تقول حنين والابتسامة تسبق كلماتها، إن رؤية بناتها يعشن أحلامهن هنا هو الشيء الوحيد الذي يجعل الألم محمولًا.
التجذّر "Palestine Root"
لم تتوقف حنين عند حدود التأقلم، بل شاركت في تأسيس مجموعة "Palestine Root"، وهي مبادرة ثقافية أسستها نساء فلسطينيات وصلن إلى أستراليا بعد الحرب.
"نريد أن نحافظ على ثقافتنا، ونقدمها للمجتمع هنا. الثقافة الفلسطينية لا تعرف الجغرافيا، وهي أقوى من المنفى"، تقول.
رغم الألم، لا تزال حنين متمسكة بالحياة. "أنا اليوم أدرس، وأعمل، وأتطوع. لدي أصدقاء كثر هنا، بعد أن كنت أعرف اثنين فقط. خلال تسعة أشهر فقط، شعرت أنني وُلدت من جديد".
لكن قلبها لا يزال مع غزة اذ تقول:
"كل صباح أفتح الأخبار لأطمئن. لدي أمي وأهلي هناك. هناك من فقدتُهم، ومن لم أستطع حتى وداعهم".
وتختم حديثها بكلمات درويش:
"نحن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا"، وتضيف:
وسنظل نحبها، لا عن ضعف، بل عن إيمان، وعن كرامة، وعن ذاكرة لا تموت
في وقتٍ يترقّب فيه العالم تطوّرات المشهد السياسي والأمني في المنطقة، ومع استمرار المفاوضات دون التوصّل حتى اللحظة إلى اتفاق نهائي بشأن وقف إطلاق النار، تتكثّف الجهود الدولية والوساطات الإقليمية لإحداث خرق حقيقي، وسط مؤشرات على تقدّم جزئي دون تفعيل عملي للتهدئة، يطل السابع من أكتوبر على حنين السماك لا كغيرها من العالم.
تجدر الإشارة الى أن الهجوم الذي شنّته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 كان الشرارة التي فجّرت التصعيد الحالي في الصراع بين إسرائيل وغزة. هذا الهجوم أسفر عن مقتل نحو 1,200 إسرائيلي وأسر حوالي 250 آخرين، ولا يزال نحو 50 شخصًا في عداد المفقودين، ويُعتقد أن حوالي 20 منهم لا يزالون على قيد الحياة.
ومنذ ذلك الهجوم وما تبعه من عمليات عسكرية إسرائيلية في غزة، أعلنت وزارة الصحة في غزة في تقريرها الصادر بتاريخ 24 أيلول/سبتمبر 2025 أن عدد القتلى الفلسطينيين بلغ 66,416 شخصًا. وفي المقابل، تشير وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى أن عدد القتلى الإسرائيليين منذ بداية الحرب قد وصل إلى 1,983 شخصًا.
هذا ويؤكد تقرير الأمم المتحدة أن نحو 60% من البنية التحتية في غزة تضررت أو دُمرت، وأن أكثر من 95% من المستشفيات تعمل بشكل محدود بسبب نقص الوقود والأدوية، مما يزيد من معاناة المدنيين في ظل القصف المستمر والحصار.
هل ضمدّت أرض أستراليا البعيدة جراحًا ما زالت تنزف داخل قلب حنين بحثًا عن وطن وملاذ آمن؟
الإجابة في الملف الصوتيّ أعلاه.
استمعوا لبرنامج "Good Morning Australia" من الاثنين إلى الجمعة من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحا بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق SBS Audio المتاح مجاناً على أبل وأندرويد.وعلى القناة 304 التلفزيونية.