تمتد خيوط الحكاية في حياة الكاتبة ماري حنون خلة من ضفاف مديينة ود مدني على ضفاف النيل إلى شمس أستراليا، ومن جذورٍ اكتشفتها بالمصادفة، إلى ذاكرةٍ نسجها السودان بيدٍ حانية وأخرى قاسية، وصورةٍ جميلةٍ ما تزال عالقة في الروح.
ماري ليست فقط واحدة من أصوات "لا تسألوا الأشجار عن أسمائها"، بل امرأة حملت العالم في حقيبة صغيرة وواصلت السير.
عاشت الهجرة كرحلة متكسّرة بين السودان الذي منحها الحرف الاول والملح، وأستراليا التي اختبرتها وصنعت منها صوتا جديدا.
السودان… ذاكرة أولى لا تُنسى
استعادت ماري طفولتها في السودان وبالذات في ود مدني، وأشارت في حديث لـ"أس بي أس عربي" إلى أن السودان منحها "الدفء والبساطة والعيش بالفطرة"، مضيفةً أن المجتمع هناك "كان يحتضننا بلا تعقيدات… كل الحي يعرف بعضه، وكل بيت يتحول إلى بيت للجميع".
واستعارت مقطعا من اغنية الفنان محمد الأمين الشهيرة (مالو أعياه النضال بدني.. روحي ليه مشتهيه ود مدني) وقالت انا مشتهية اروح الى ود مدني ، ولكنها الان ليست مثل قبل فقد انهكتها الحرب.
ولفتت إلى أن الأغاني السودانية رسّخت في داخلها قيم المودة والتكافل، وقالت إن صوت الفنان محمد الأمين "يحمل روح السودان كما عرفته في تلك السنوات".
وأكدت أنه رغم تغيّر السودان اليوم بفعل الاقتحامات والنزاعات، إلا أنها "لا تزال ترى الوجه الجميل الذي لم يعرفه العالم"، موضحة أن هذا الوجه يتمثل في "الشهامة، والبساطة، والألفة التي تميّز المجتمع السوداني".

وروت ماري كيف اكتشفت جذورها الأرمنية بالمصادفة وقالت إنها فوجئت بأسماء العائلة محفورة في المقابر حين كانت تزورها في سوريا وهي صغيرة ، مشيرة الى ان تلك الاسماء كانت ملحقة بالمقطع "يان" مثل حنونيان ، كاسبريان، وإبراهيميان وان ذلك خلق اول الاسئلة في بالها عن الجذور .
وأوضحت قائلة "حينها أدركت عائلتي من بين عائلات عديدة تعرّضت للمجازر الأرمنية في العهد العثماني" ، واشارت الى ان الامر مثل لها "صدمة وفضولاً في الوقت نفسه وخلق شعورا بان ثمة طبقة جديدة من هويتها كانت نائمة ثم استيقظت.
وعما غيره ذلك الاكتشاف فيها قالت ماري حنون "انا اشبه السودانيات بالنشأة وبالافكار وبالتربية وبالبوصلة لكن مثلا بالمظهر الخارجي بحكم الجينات سحنتي البيضاء لان الجذور سورية ثم اكتشفت انها ارمنية".
واضفت كان عندي فضول ان اكتشف ما الذي حصل حينها لكن للأسف البحث ما تم بسبب بسبب مشاغل الحياة والحرب الأهلية البنانية عام 1975.
ورأت أن رحلة عائلتها الممتدة من سوريا إلى السودان ثم إلى أستراليا تشبه "موسم هجرة إلى الشرق" في كناية مشابهة لرواية الكاتب السوداني الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال" ومضت الى القول " لكني لم أكن أملك رفاهية العودة كما في الطيب صالح .
واضافت "نحن جئنا لنبدأ، وليس لنعود".
الهجرة إلى أستراليا… البدايات المتواضعة
وقالت "لا أتجاهل البدايات المتواضعة" مشيرة الى انها هي الباب الأولى التي فتحت أبوابًا متعددة نحو المستقبل.
وذكرت ماري أنها بدأت حياتها في أستراليا عاملة نظافة، وقالت إنها لم تشعر بالخجل يوما، لأن "الكرامة ليست في الألقاب بل في الطريقة التي نحمل بها تعبنا".
وأشارت إلى أنها انبهرت في البداية بالنظافة والنظام، قبل أن تصطدم بقلة التواصل الاجتماعي وقالت "أول يوم ركبت فيه الباص قلت للسائق والركاب : صباح الخير .. ولم يرد احد"
الصدمة الاخرى التي تلقتها هو رفض قبولها في العمل بسبب المظاهر الخارجي رغم امكاناتها التي كانت محط تحيب المؤسسة التي تقدم للعمل فيها بصفة موظفة استقبال.
وبيّنت أن المجتمع متعدد الثقافات منحها فرصا واسعة، لكنها تعلّمت سريعا أن الطريق الأهم هو "أن يكون الإنسان نفسه"، مضيفة أن بعض المهاجرين "ذابوا بسرعة وخسروا هويتهم، بينما آخرون تقوقعوا".
وأكدت أن الفئة التي استطاعت "الأخذ من الطرفين" هي التي تركت بصمات واضحة اليوم في الطب والفنون والبترول والموسيقى وكذلك في البرلمان.
وداع السودان .. صرخةٌ لا وداع
تحدثت ماري عن نصها "وداعا السودان"، وأوضحت أنه لم يكن وداعا نهائيا، بل "صرخة بما لا يُقال"، مشيرة الى ان بعض البلاد تجري في دمنا مهما ابتعدنا… ولا يمكن أن نغلق الباب عليها.
واستحضرت مشاعرها تجاه ماري الصغيرة التي تركتها في السودان، فقالت: "كنتُ طفلة مغنجة ومدلّلة، محاطة بالحب والاحتواء… وكنت أعيش في زمن أنقى من حاضر اليوم".
وأكدت ماري أنها حملت في رحلتها "التعاليم والمبادئ الأصيلة من السودان، وخلطتها بما تمنحه أستراليا من حرية وفرص"، معتبرة أن هذا الخليط منحها "القدرة على العيش بكرامة مطلقة".
رسالة إلى الجيل الثاني
وجهت ماري نصيحة إلى أبناء الجيل الثاني من المهاجرين، وقالت "يجب أن يعرفوا أنهم لم يأتوا من فراغ .. بل من جذور عميقة، ومن تاريخ كامل يسري في داخلهم".
وختمت حديثها بالتأكيد على قيمة الأصالة مبينة انه "مهم جدا أن يكون الإنسان نفسه… وأن يعمل على ذاته بدل أن يذوب في مجتمع لا يعرفه بعد".


