من أستوديوهات احتضنت أنفاس فيروز والأخوين رحباني وصباح وشوشو، تُكتب اليوم صفحة جديدة من ذاكرة لبنان، بتاء التأنيث هذه المرة لتحدّد رئيسة مجلس ادارة تلفزيون لبنان د. اليسار نداف جعجع أولوياتها في إعادة رسم هوية تلفزيون لبنان السمعيّة البصريّة، في قيادةٍ نسائية ترى في الإعلام فعل انتماء لا مهنةً فحسب، لتنقل ذاكرة الوطن الى أرشيف قد يتحوّل الى معلم او ارث غير مادي.
بعد أكثر من نصف قرنٍ على انطلاق أول بثٍّ تلفزيوني من بيروت، يعود تلفزيون لبنان ليؤكد أن الوطن لا يُقاس بمساحته، بل بذاكرته وصورته وصوته.
ذاكرة وطن
منذ اللحظة التي ائتمنت فيها شاشة صغيرة على ذاكرة وطنٍ كبير، بدأ تاريخ لا يُمحى. تلك الشاشة التي أنارت الشرق الأوسط عام 1959، لم تكن مجرّد نافذةٍ للإرسال، بل مرآة وطنٍ ينظر إلى ذاته عبر الصوت والصورة.
لقد كانت ولادة تلفزيون لبنان لحظة مفصلية في تاريخ الإعلام العربي. ففي عام 1957، وضع الرئيس كميل شمعون حجر الأساس لهذا المرفق الوطني، ليكون البثّ الأول في الثامن والعشرين من أيار عام 1959، إيذانًا بانطلاق أول شاشة عربية في الشرق الأوسط من بيروت، عاصمة الثقافة والفكر والإبداع. لم تكن تلك الشاشة عادية، بل تحوّلت إلى ذاكرة وطنٍ بأكمله، احتضنت وجوهًا صارت رموزًا للبنان الابداع مع فيروز، الاخوين الرحباني، نصري شمس الدين، صباح وشوشو وغيرهم ممن صنعوا مجد لبنان.
اليوم، بعد ربع قرن من الشلل الإداري، تعود هذه المؤسسة الوطنية لتنهض من جديد، حاملةً مشعل الثقافة والفنون، في محاولة لإحياء لبنان الذي كان، وإعادة الألق إلى صورة وطنٍ أنهكته الأزمات. غير أن اللافت هذه المرة أنّ القيادة تأتي بتاء التأنيث، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المؤسسة.
من قلب أستوديوهات تلفزيون لبنان، حيث وقف الكبار، وحيث تشكّلت ملامح الذاكرة السمعية والبصرية للبنانيين، تؤكد د. اليسار جعجع أن إعادة بناء تلفزيون لبنان هي في الوقت نفسه إعادة ترميم "تاريخ لا يُكتب بالحبر، بل بالصوت والصورة" في رهان على الثقافة وعلى ذاكرةٍ لم تمت رغم العواصف.
قيادة... بتاء التأنيث
تحتفي د. جعجع "بالمرأة القيادية" التي تسكنها في مرحلة إعادة احياء مرفق وطني بعد عقود من الجمود الإداري، اذ تقول:
أنا فخورة بأن أكون امرأة لبنانية قياديّة، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك استثناءً أو مفاجأة. المعيار يجب أن يكون الكفاءة، لا الجنس ولا الانتماء الطائفي
وترى أن المرأة اللبنانية أثبتت حضورها في الشأن العام، وأنها قادرة على أن تكون في قلب القرار لا على هامشه، لأنها، كما تصف "القلب والعقل معًا". فالقيادة عندها ليست سلطة، بل مسؤولية ورؤية، تنطلق من الإيمان بلبنان وبقدرة أبنائه على استعادة الأمل ل"أنسنة" العمل الإعلامي.
الهوية البصرية: ذاكرة الأمس، بصمة الغد
في فضاء المساحة العامة وضوضاء عالم الإعلام الذي يتبدل بسرعة قياسية ومرهقة ويتطلب مرونة وجهوزية نفسية ولوجستية للبقاء داخل حلبة هذا السباق ومتغيراته، تقرأ الواقع بواقعية خلاقة لتحدد اولوياتها للمرحلة المقبلة.
تقول جعجع إن الخطوة الأولى في ورشة إعادة بناء تلفزيون لبنان هي تحديد الهوية:
علينا أن نعرف من نحن، وما الذي نريد أن نكونه. من هنا ننطلق نحو الهوية البصرية الجديدة التي تعكس صورة لبنان الثقافي والإعلامي
وتؤكد جعجع أن القيم التي تأسس عليها التلفزيون من "الحياد، والشفافية، والإنتاج الثقافي الراقي"، ستكون حجر الزاوية في المرحلة المقبلة، مع إعادة الاعتبار للبرامج الثقافية والشبابية والتوعوية.
وترى أن الإعلام الإيجابي هو "مقاومة من نوع آخر"، لأنه يعيد الثقة بالوطن ويُبرز وجوهه المضيئة بدل الغرق في فوضى الأخبار السلبية وخطاب الكراهية.
رقمنة الأرشيف... من الحنين إلى الذاكرة العالمية
تحتضن د. اليسار جعجع أرشيف تلفزيون لبنان كمعلم وطني غير مادي لتحرس هذا الكنز السمعي البصري الذي يوثّق بالصوت والصورة ذاكرة الوطن منذ أكثر من ستة عقود. تشكر كل من حرس ذاكرة لبنان في هذا الأرشيف وسط متاريس الحرب وعلى رأسهم مدير الارشيف السابق عثمان مجذوب، لتقول:
بدأنا مشروع رقمنة الأرشيف بالتعاون مع اليونسكو، وهو مرشّح لأن يُدرج ضمن برنامج "ذاكرة العالم" عام 2026
وترى أن حفظ هذا الأرشيف ليس فقط عملاً تقنيًا، بل مسؤولية وطنية وثقافية، لأنه يحفظ وجوه لبنان المشرق اذ تقول:
"هذا الأرشيف الذي تعرض للتلف وتطلب إعادة ترميم، لم يعد مطمورًا في المخازن، بل صار فضاءً مفتوحًا للفنانين والباحثين والطلاب، وذاكرةً حية في متناول الجميع".
هي التي حرست ارشيف تلفزيون لبنان بعينيها، تعي في قراءة الواقع، أن تلفزيون لبنان الرسمي لن يستطيع اليوم منافسة وسائل الإعلام المحلية والعربية من الناحية التقنية، ولكن ما يكتنزه تلفزيون لبنان من ذاكرة وطن، هو بصمته الخاصة.
وأن هذه الذاكرة، تمثّل معلمًا من معالم لبنان، قادرة ان تتحوّل الى رحلة سمعية بصرية 'أبًّا عن جدّ' الى لبنان سويسرا الشرق الذي لم يعرفه الى جيل عبر.
لبنان الانتشار... وطنٌ لا يرحل
تلفزيون لبنان الذي، كلبنان، لا يتسع في مساحة جغرافية وحسب، يسكن وجدان لبنان الانتشار في أربع اقطار العالم وعلى امتداد الكون.
تحرص جعجع على ربط لبنان المقيم بلبنان المغترب من خلال برامج خاصة تعكس وجوه الاغتراب المشرقة، وتُعيد وصل ما انقطع بين الجذور والامتداد.
وللاغتراب اللبناني المنتشر في أصقاع الأرض، لا سيما في أستراليا، تقول:
أنتم لبنان الثاني، ولبنان الحقيقي. لم ترحلوا عن لبنان، بل أنتم باقون فيه
هي التي سيحفر اسمها الى جانب د. شارل رزق، فؤاد نعيم، ريمون جبارة، إبراهيم الخوري وغيرهم ممن قادوا هذا الصرح الاعلامي، هل ستعيد عصر لبنان الذهبي في مرحلة إعادة ولادة لبنان؟ كيف سيواكب تلفزيون لبنان صوت الاغتراب اللبناني الذي شكل شريان حياة للبنان في أحلك ازماته؟ وماذا تقول اليسار الأم عن دعوتها الاولى؟
الإجابة في الملف الصوتيّ أعلاه.
هل أعجبكم المقال؟ استمعوا لبرنامج "Good Morning Australia" من الاثنين إلى الجمعة من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحا بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق SBS Audio المتاح مجاناً على أبل و أندرويد وعلى SBS On Demand.




