تمتد رحلة الدكتورة رند يونس كخيط مضيء يربط بين اقتلاعٍ قسري وجذور لا تتعارض مع الهويّة المركّبة وإصرار لا يعرف الاستسلام، الشابة التي رسمت طريقها الطويل بخطواتٍ واثقة حين لم يؤمن أحد بها.
وُلدت رند لعائلة فلسطينية شُرِّدت من أرضها وانتقلت للعيش في الأردن، ثم قادتها خطواتها الأولى إلى السعودية قبل أن تفتح لها أستراليا بابًا آخر للوطن وللمستقبل.
تقدّم رحلة الدكتورة رند يونس نموذجًا إنسانيًا لامرأة استطاعت تحويل التجربة القاسية للهجرة وتعدد البيئات إلى طاقة إنجاز وهوية مركّبة تصنع ذاتها باستمرار. تستعيد رند لحظة ترشيحها لجائزة "أسترالية العام" بوصفها لحظة مرّت فيها حياتها كاملة أمام عينيها، إذ تداخل فيها شعور الانتصار الشخصي مع أثرها الإنساني على الآخرين.
في أول منزل للعائلة في منطقة Campsie، وجدت الطفلة نفسها أمام عالم جديد لا يشبهها، ولغة يتعثر لسانها بها، ونظرات تسخر من لكنتها الإنجليزية. لحظات كان يمكن أن تكسر قلب طفلة، لكنها اختارت ألا تنكسر، مكتفية بصوت داخلي صغير يهمس بثقة: "أريد أن أصبح طبيبة أسنان". ومن تلك اللحظة، تحوّلت العقبات الى وقود للانجاز، فاجتهدت الشابة الملهمة حتى تخرجت بمعدل 99% وحلّت ثانية في نيو ساوث ويلز في اللغة الإنجليزية، تلك اللغة نفسها التي تحولت من عثرة إلى جناح يرفعها.
لم تتمكن من دخول كليّة طب الأسنان في سيدني، فحملها حلمها إلى مدينة أورانج، بعيدًا عن عائلتها بثلاث ساعات، حيث قبلت لدراسة طب الأسنان. وهناك واجهت الغربة وتحديات الاندماج، لتكتشف أن الانتقال ليس مجرد حركة جغرافية، بل عملية تشكيل جديدة للذات. كانت تقول دائمًا: "الاقتلاع ليس نهاية… بل بداية لصناعة الذات من جديد". تلك الفلسفة رافقتها طوال الطريق
واجهت رند محاولات التثبيط المبكر، حين شكك بعض المعلمين في قدرتها على دخول الجامعة، لكنها حوّلت الشك إلى دافع لترسيخ يقين عميق بما تراه في نفسها. هذا اليقين يعود جذره إلى حلم زرعته في عمر الحادية عشرة حين أدركت بوضوح ما تريده: أن تصبح طبيبة أسنان، مدعومة بعائلة لم تضع أمامها كلمة "لا" يومًا.
يلخّص مسار رند رؤية رند للحياة اذ تعتبر ان الإنسان ليس جامدًا، بل قادر على أن يُعاد تشكيله بالمعرفة، وبالإصرار، وبالقدرة على تحويل الهجرة والتحديات إلى مساحات للنمو والاكتمال اذ تقول:
"أصغيت الى صوتي الداخلي وسرتُ في طريقي".
تجلس رند في عيادتها الخاصة في روزلاندز، تنظر حولها بدهشة هادئة. الطفلة التي ضحك منها الآخرون، الشابة التي وضعت في صف خاص بضعف اللغة، الطفلة التي لم تعرف شيئًا عن النظام التعليمي في أستراليا، أصبحت طبيبة ناجحة تُرشَّح لجائزة "أسترالية العام" عن فئة الشباب، وتخدم مجتمعها بثقة وشغف.
تستعيد لحظة الترشيح فتقول: "شريط حياتي مرّ أمامي فجأة… كان صعبًا أن أصدق الرحلة الطويلة التي قطعتها".
وتعود بذاكرتها إلى أيام المدرسة الأولى، حين وُضعت في صف خاص لأنها لم تكن تفهم اللغة بعد: "كنت متحمسة… لغة جديدة وعالم جديد. لكن الانتقال للثانوية كشف حجم الفجوة الثقافية. استغرق الأمر نحو سنتين لألتقط الإيقاع".
وهناك، ظهرت الأصوات المثبطة، ومنها معلمة سألتها باستغراب: "كيف تفكرين بدخول الجامعة؟" لكنها كانت ترى شيئًا آخر في نفسها، فاختارت أن تثبت العكس.
لم يكن الإصرار الذي عاش فيها منذ عمر الـ11 مجرد طموح صغير، بل كان وعدًا لنفسها بأن تحول ترحالها في كل اقتلاع، الى بداية جديدة.
في هذا الإطار تقول:
نحن لسنا أشجارًا ثابتة ام مياه راكدة… البشر قادرون على إعادة خلق أنفسهم والانسياب مع الحياة
هذ التي تحتفي بهويتها المركبة في هذا الشتات في ذاكرة طفلة فلسطينية لأبوين اقتلاعا من ارضهما وطفولتها الأردنية، وتشكّلها الأسترالي اللاحق كلها اليوم أجزاء متكاملة في امرأة تعرف جيدًا من أين جاءت وإلى أين تريد أن تذهب، تقول:
الركيزة هي في الداخل ونغذي كل ما يحدث خارجنا مما هو ثابت في داخلنا
وفي عيادتها التي تخدم شريحة واسعة من أبناء الجالية العربية، تجد رند معنى إضافيًا لعملها: "أشعر بفخر كبير حين أستطيع تقديم شيء لأبناء جاليتي… حتى لو كانت مجرد ابتسامة تغيّر يومهم". وحين تصل إلى الحديث عن عائلتها، يلين صوتها، وتختنق الكلمات قليلًا: "شكرًا من القلب… أنتم زرعتم الحلم. أعرف حجم تضحياتكما… وأتمنى أن أكون على قدر محبتكما".
وتقارب رند اليوم تجربتها من خلال فهم أعمق لمعنى الاقتلاع والتنقل، معتبرة إياهما عملية إعادة تشكيل للذات تمكّن الإنسان من خلق نسخته الجديدة من دون أن يفقد جذوره. فهويتها الفلسطينية حاضرة بثبات، ويتسع إحساسها بالانتماء ليضم كل الأماكن التي ساهمت في صنع شخصيتها ومسارها.
من قلب عيادتها الخاصة في قلب المجتمع الذي تنتمي بفخر اليه، ما الرسالة التي توجّهها للشباب العربي في المهجر؟ وكيف أعربت عن فخرها وامتنانها بوالديها الذين آمنا بها وبحلمها؟
الإجابة مع د. رند يونس في الملف الصوتيّ أعلاه.
هل أعجبكم المقال؟ استمعوا لبرنامج "Good Morning Australia" من الاثنين إلى الجمعة من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحا بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق SBS Audio المتاح مجاناً على أبل و أندرويد وعلى SBS On Demand.



