"روحي بقيت في غزة":د. ندى أبو الرب، شهادة للحياة بعد 27 يومًا في جحيم الموت

ARB TN 271125 GAZA NURSE ARTICLE IMAGE.png

Marking the International Day of Solidarity with the Palestinian people, Palestinian Australian pediatric Dr Nada Abu Alrub unveils to Petra Taok her moving experience as a frontliner in war torn Gaza saying “my soul remained in Gaza” upon her return to Brisbane after completing her medical mission to Gaza with PANZMA

عادت طبيبة الأطفال د. ندى أبو الرب إلى بريزبن ولكن بجسدها فقط، بعد مهمة إنسانية طبية في قطاع غزة قد تكون الأعقد في مسيرتها المهنية، لتكون شاهدة للحياة وسط "جحيم الموت" في جرح الإنسانية والطفولة. في اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، التاسع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، كيف عاشت لحظات تضامن كادت أن تكون الأخيرة بالنسبة إليها؟ متى شعرت بالعجز أمام هول الألم وطفولة مسلوبة؟ وكيف كانت الحياة طوال 27 يومًا على تلك البقعة من الأرض؟


هذه المقابلة تتخللها مشاهد صوتية قد يراها البعض قاسية.

تركت د. ندى أبو الرب روحها مع أطفال غزة لتعود جسدًا فقط إلى ولاية الشمس في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، بعد مهمة طبية وإنسانية ستعيد تشكيل مسار حياتها. فقد عادت إلى بريزبن عقب إتمام مهمتها ضمن فريق ميداني يضم عشرات الأطباء والمسعفين من الجمعية الطبية الفلسطينية الأسترالية النيوزيلندية (PANZMA).


 هناك، حيث مياه الشفة مالحة كالدمع، قدّمت رعاية صحية حرجة في قلب المأساة، وعلى مدى عامين ظلت على خطوط النار لتبقى الحياة ممكنة، متولية الإشراف الدقيق على مهمات عشرات الأطباء والممرضين: من لحظة مغادرتهم أوطانهم، إلى وصولهم قلب غزة، مرورًا بتأمين الإمدادات ومواقع الإيواء، ووصولًا إلى الدعم النفسي الذي يصون قدرتهم على الصمود وإنقاذ الأرواح في أقسى لحظات الإنسان.

 
لم تكن د. ندى أبو الرب تسعى إلى فعل بطولي حين غادرت أستراليا في التاسع من أيلول/سبتمبر، بقدر ما كان محاولة للهروب من ثِقل العجز. تستعيد تلك اللحظة التي غيّرت مجرى حياتها:


"أي إنسان يملك قلبًا وكرامة ويرى ما يجري، لنيتمكنمن أن يبقى جالسًا لا يفعل شيئًا… كان هذا الشعور يفتك بي."




 تصف الدكتورة ندى تجربتها في غزة بوصفها خوضًا لمعركة لم تغادرها روحًا، إذ خرجت جسدًا فقط بينما ظلّ قلبها هناك. عملت في ظروف تفتقر إلى أبسط الإمكانات الطبية، فأجرت عمليات ولادة بلا أدوات، واستعاض الفريق عن المستلزمات بحبال الغسيل. تنظر إلى خبرة شطرت حياتها إلى ما قبلها وبعدها، فتقول:

خرجتُ جسدًا… لكن روحي وقلبي بقيا في غزة

 تعود عبر الأثير إلى لحظة المغادرة التي تاقت إليها، لكنها لم تُخبر عائلتها إلا في اللحظة التي لم يعد فيها التراجع ممكنًا، وكأن الصمت كان وسيلتها الوحيدة لحماية القرار من التصدع.هي التي تقرّ بأن اهلها عانوا اكثرمنها خوفًا على سلامتها وسط اانقطاع التواصل المتكررتقول:

"لم أستطع أن أخبرهم بيقين قبل أن أصل إلى المطار. لم أُرِد لأحد أن يمنعني عن ذلك بدافع المحبة."

عند العتبة الأولى…

تؤكد د. ندى أن لا شيء يمكنه إعداد الإنسان لمثل هذا الجحيم، وأن التجربة تجاوزت حدود الاحتمال البشري، لتنتهي بفقدان الإيمان بالمجتمع الدولي وبكل الشعارات المتعلقة بحقوق الإنسان. ورغم أن جمعية PANZMA جهزت البعثة الطبية، فإن هول الواقع يفوق أي تصور.

تقول د. ندى إنه ما إن دخلت المستشفى حتى انهار كل ما ظنّت أنها مستعدة له. تروي اللحظة بذاكرة لا تزال حيّة ومفتوحة على الألم:

"من الدقيقة الأولى أدركتُ أنه لا شيء يُهيّئ الإنسان لما هنا. شعرتُ أنني دخلتُ يوم القيامة، لا المستشفى."

ومع ذلك، لم يكن هناك وقت للانهيار، فالمشهد كان أوسع من القدرة على الاستيعاب:

"كنتُ أحاول أن أبدو قوية… لكن الحقيقة أنني كنتُ أنهار من الداخل كل يوم، ألف مرة."

طبّ بلا أدوات… وإصرار لا تفسير له

تقف د. ندى أمام مشاهد تفوق الوصف، حيث كانت الأطراف البتورة تصل داخل أكياس لا يمكن تمييز أصحابها. شعرت بأن العجز عن الفعل يناقض الكرامة الإنسانية، وأن البقاء متفرجًا ضربٌ من الخيانة. وعلى الرغم من أنها قدّمت كل ما تستطيع، ظل إحساسها عميقًا بأن المأساة أكبر من قدرة الأفراد على إيقافها.

مع مرور الأيام، أصبح اللامعقول واقعًا يوميًا، وصارت النجاة تعتمد على الاجتهاد أكثر مما تعتمد على الطب:

كنّا نربط الحبل السري للمولود بخيط تنظيف الغسيل. لا صابون. حتى الكمامات نتقاسمها فيما بيننا
لم تكن المأساة في حجم الإصابات فحسب، بل في التفاصيل التي لا تُحتمل:

"هناك حالات لا تموت لأن إصابتها قاتلة… بل تموت لأنه لا توجد ضمادة نظيفة"،
لم أعاين في حياتي اطفالًا يموتون من توقّف عضلات القلب خوفًا وجوعًا وألمًا

 ما يستحق الحياة

في غزة تتألق الحياة في قلب الموت، والمعجزات لم تكن حكايات مبالغًا فيها، بل وقائع تجري أمام أعينها.

كانت الأرواح الصغيرة تتكاثر يومًا بعد يوم، حتى صار العدّ فعلًا قاسيًا:

"في يوم واحد وصلنا 63 طفلًا. لم تكن أرقامًا… كانت أرواحًا، أسماء، ألعابًا، وأصواتًا انطفأت."

غير أن طفلًا واحدًا ترك أثرًا لا يُمحى في قلب د. ندى، إنه كنان، الناجي الوحيد من عائلته. تعانق بسمته من بعيد لتقول:

كنان أصبح كإبني… فقد أسرته كلّها، ويقول لي: يا خالتي ندى، لا تحزني، فهم يلعبون الآن في الجنة

"كان يقول لي: خالتي ندى، لا تبكي… أمي وأبي صاروا عند ربنا، وأنا سأجدهم. طفل يواسيني أنا!"

تشهد للحياة التي تنتصر في غزة تحت الأنقاض لتقول:

"كان أهل غزة يتقطّعون ثم يقولون: الحمد لله… نحن راضون بما كتب الله."

علّمتني غزة أن من يدخلها لا يعود الإنسان نفسه

في غزة ماتت فيّ الثقة

يشير تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن وزارة الصحة في غزة أفادت أنه بين 7 أكتوبر 2023 و7 أكتوبر 2025، قُتل 20,179 طفلًا (30٪ من إجمالي القتلى)، كما توفي 1,029 طفلًا دون عام، و5,031 طفلًا دون 5 سنوات.

أمام هول الموت تقول د. ندى:

"ماتت الثقة بالعالم، بحقوق الإنسان، بالقانون الدولي… كلها تحوّلت إلى شعارات فارغة."

ومع ذلك، ظل ما هو أقوى من كل ما انطفأ:

"لكن الذي بقي في داخلي هو الإيمان بالناس. أهل غزة يعطونك من جوعهم… ويعتذرون لأنهم لم يستطيعوا أن يضيفوك أكثر."

تحتضن ومضات نور في أحلك الظلمات، هي التي بعثت من جديد من رحم غزة، وتعترف بما قد لا ينسجم مع المنطق، لكنه انسجم مع قلبها:

"هناك، ربما للمرة الأولى شعرتُ بسلام حقيقي… ليس لأن المكان آمن، بل لأن النيّة صارت خالصة تمامًا."

هي التي خرجت بعد سبعة وعشرين يومًا، لكنها لم تستعد حياتها السابقة:
"عدتُ… لكنني لم أعد. كل شيء في أستراليا صار غريبًا".
وكمن يعرف أن نهاية الجملة ليست نهاية الحكاية، تقول:

ما رأيته لا يزول. لا أستطيع أن أكون الإنسان نفسه. ولا أرغب في أن أعود الإنسان نفسه

تجدر الإشارة إلى أن الهجوم الذي شنته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 كان الشرارة التي فجّرت التصعيد الحالي في الصراع بين إسرائيل وغزة. أسفر هذا الهجوم عن مقتل نحو 1,200 إسرائيلي وأسر حوالي 250 آخرين.

ومنذ ذلك الهجوم وما تبعه من عمليات عسكرية إسرائيلية في غزة، أعلنت وزارة الصحة في غزة في تقريرها بتاريخ 24 أيلول/سبتمبر 2025 أن عدد القتلى الفلسطينيين بلغ 66,416 شخصًا. وفي المقابل، تشير وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى أن عدد القتلى الإسرائيليين منذ بداية الحرب وصل إلى 1,983 شخصًا.

هذا وحدّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1977، يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني يومًا دوليًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وهو التاريخ نفسه الذي اعتمدت فيه الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين عام 1947. وفي هذا اليوم، تُنظَّم فعاليات عالمية تشمل مؤتمرات ومسيرات وبيانات رسمية، تُجدّد الدعوة لتمكين الفلسطينيين من حقوقهم وإنفاذ القرارات الدولية المتعلقة بقضيتهم.
 
بين الطريق الطويل إلى غزة والطريق الطويل إلى أستراليا، ما الذي مات داخل د. ندى أبو الرب، وما الذي ولد فيها ليظل معها لعمرٍ كامل؟
 

الإجابة في الملف الصوتيّ أعلاه.

للاستماع إلى أحدث التقارير الصوتية والبودكاست، اضغطوا على الرابط التالي.

استمعوا لبرنامج "Good Morning Australia" من الاثنين إلى الجمعة من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحا بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق SBS Audio المتاح مجاناً على أبل  وأندرويد.وعلى القناة 304 التلفزيونية.

أكملوا الحوار عبر حساباتنا على فيسبوك وانستغرام.

اشتركوا في قناة SBS Arabic على YouTube لتشاهدوا أحدث القصص والأخبار الأسترالية.

 

 

شارك

تحديثات بالبريد الإلكتروني من أس بي أس عربي

.سجل بريدك الإلكتروني الآن لتصلك الأخبار من أس بي أس عربي باللغة العربية

باشتراكك في هذه الخدمة، أنت توافق على شروط الخدمة وسياسة الخصوصية الخاصة بـ "SBS" بما في ذلك تلقي تحديثات عبر البريد الإلكتروني من SBS

Download our apps
SBS Audio
SBS On Demand

Listen to our podcasts
Independent news and stories connecting you to life in Australia and Arabic-speaking Australians.
Personal journeys of Arab-Australian migrants.
Get the latest with our exclusive in-language podcasts on your favourite podcast apps.

Watch on SBS
Arabic Collection

Arabic Collection

Watch SBS On Demand