على ضفاف إيست ريفر في نيويورك، ينتصب مبنى زجاجي شاهق أصبح بمرور العقود أشبه بمسرح تتقاطع فيه مصائر العالم. هناك، حيث تلتقي الوفود وتتصافح الأيدي أمام عدسات الكاميرات، يتسابق القادة إلى الميكروفون، محمّلين بخطب قد تحيد في لحظة عن النص، لتتحول إلى حدث بذاته. وكما يُقال دائماً: هوامش الخبر، خبر حين يتعلّق الأمر بالزعماء.
منذ عام 1945، حين خرج العالم مثخناً بجراح الحرب العالمية الثانية، وُلدت الجمعية العامة للأمم المتحدة كأحد الأركان الستة للمنظمة الدولية. الفكرة كانت بسيطة وعظيمة في آن: مكان واحد تجتمع فيه كل الدول، صغيرها وكبيرها، غنيها وفقيرها، لتتشارك الصوت نفسه. ومنذ البداية كُرّس هذا المبدأ: 193 دولة، لكل منها صوت واحد، لا أكثر ولا أقل.
تأسيس وتركيبة
الجمعية العامة هي الجهاز التمثيلي الرئيسي للأمم المتحدة. وهي بمثابة برلمان عالمي يضم ست لجان رئيسية: لجنة نزع السلاح والأمن، اللجنة الاقتصادية والمالية، اللجنة الاجتماعية والإنسانية، لجنة الوصاية، اللجنة القانونية، ولجنة الشؤون السياسية الخاصة.
وتعد اللغات الإنكليزية والعربية والفرنسية والروسية والإسبانية والصينية رسمية للأمم المتحدة وجمعيتها العامة.
من خلال تلك اللجان، تناقش الجمعية كل ما يمسّ السلام والأمن، وتنتخب أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين، وتعتمد الميزانية، وتراقب عمل الوكالات الأممية. ورغم أن قراراتها ليست ملزمة قانونياً للدول، إلا أنها كثيراً ما شكّلت بوصلات أخلاقية وسياسية لا يمكن تجاهلها.
لماذا البرازيل أولا؟
كما جرت العادة في افتتاح مداولات الجمعية العامة، تحتل البرازيل دوما الترتيب الأول على قائمة المتحدثين في المداولات العامة. هل تساءلتم لماذا تتحدث البرازيل أولا في افتتاح المناقشة العامة؟
الإجابة هي أن البلد المضيف "الولايات المتحدة الأميركية" كان دائما يستهل الحديث في المناقشة العامة، ولكن في الدورة العاشرة للجمعية العامة طلب أن يكون ثانيا.
وعندها حاولت دائرة المراسم والاتصال العثور على دولة لتتحدث أولا بدلا عن الولايات المتحدة، ولكن لم يتطوع أحد.
وفي نهاية المطاف تقدمت البرازيل وتحدثت أولا، ومنذ ذلك الحين، ظلت تفتتح بصورة تقليدية المناقشة العامة.
المطرقة الأيسلندية .. هدية من بلاد الفايكنج
ومن الطقوس التي باتت جزءاً من صورتها الرمزية، مطرقة رئاسة الجمعية العامة. مطرقة صغيرة، لكنها تحمل صوتاً عميقاً يفتتح الجلسات ويختمها. هدية من أيسلندا، حيث وُلد أقدم برلمان في العالم عام 930. منذ 1952، باتت تلك المطرقة ترافق رؤساء الجمعية، حتى عندما كُسرت بالخطأ عام 1960 على يد الدبلوماسي الإيرلندي فريدريك بولاند وهو يحاول تهدئة خروتشوف الغاضب. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت المطرقة أيقونة بحد ذاتها، شاهدة على الانفعالات والانفجارات الكلامية تحت سقف القاعة الأممية.
قرارات تاريخية
في تاريخها الطويل، أصدرت الجمعية قرارات مفصلية غيّرت مسار السياسة الدولية. القرار رقم 1 كان حول نزع السلاح النووي. أما القرار 181 عام 1947 فكان أكثرها تأثيراً وإثارة للجدل، إذ نص على تقسيم فلسطين آنذاك إلى دولتين عربية ويهودية. وفي 1950 جاء القرار 377 المعروف بـ"متحدون من أجل السلام"، ليعطي الجمعية صلاحية التحرك حين يفشل مجلس الأمن، وهو ما استُخدم لاحقاً في أزمة السويس عام 1956 لوقف العدوان الثلاثي على مصر، وتأسيس أول قوة لحفظ السلام.
مسرح اللحظات المثيرة
يمنح اجتماع الجمعية قادة الدول منصة عالمية. وخلال المداولات العامة، تخصص 15 دقيقة لكل دولة للتحدث حول موضوع العام، لكن هذا الحد الزمني يجري تجاهله بشكل عام. لكن الجمعية العامة ليست فقط نصوص القرارات. هي أيضاً مسرح اللحظات المثيرة التي بقيت عالقة في ذاكرة العالم:
كاسترو والدجاجة: عام 1960 ألقى الزعيم الكوبي فيدل كاسترو أطول خطاب في تاريخ الجمعية والذي عرف بخطاب "فلسفة الحرب ستزول بعد زوال فلسفة النهب" وامتد لأربع ساعات ونصف، مهاجماً الولايات المتحدة بشراسة ووصف جون كيندي بـ"الجاهل"، فيما كانت الكواليس مشغولة بقصته الطريفة عن دجاجة احتفظ بها في غرفته بالفندق.
خروتشوف والحذاء: في العام نفسه، شهدت القاعة واحدة من أغرب المشاهد عندما خلع الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف حذاءه وضرب به المنصة اعتراضاً على مندوب الفلبين ، ولم يكتف بذلك، بل شحن خروتشوف خطابه بسيل من التحذيرات والشتائم لرئيس الوفد الفلبيني، وهدده قائلا "سندفنك"، فضجّت القاعة بالصدمة، وبقيت صورة الحذاء رمزاً لتوتر الحرب الباردة.
عيدي أمين وهتلر: عام 1972، ارتكب الرئيس الأوغندي عيدي أمين زلة لا تُنسى عندما مدح رئيس الوزراء البريطاني إدوارد هيث وقارنه خطأً بهتلر قبل أن يتدارك قائلاً: "كنت أقصد تشرشل
عرفات وغصن الزيتون: عام 1974، دخل ياسر عرفات قاعة الجمعية لأول مرة ممثلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولوّح بغصن زيتون في يده قائلاً عبارته الشهيرة: "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". لحظة دوّت في الذاكرة وأعطت للقضية الفلسطينية بعداً دوليا".
شافيز والكبريت: عام 2006، وصف الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز جورج بوش بالشيطان قائلاً: "لا تزال المنصة تعبق برائحة الكبريت".
القذافي والخيمة: في 2009، تجاوز الزعيم الليبي معمر القذافي الوقت المخصص له بـ85 دقيقة، مزّق ميثاق الأمم المتحدة على المنصة، ثم عاد إلى خيمته المنصوبة خارج نيويورك.
أرديرن ورضيعتها: استقبلت قاعة الجمعية العامة عام 2018 أصغر ضيوفها، وهي طفلة رئيسة وزراء نيوزيلندا آنذاك، جاسيندا أرديرن، وكان يبلغ وقتها من العمر 3 أشهر فقط ، لتصبح رئيسة وزراء نيوزيلندا أول زعيمة تحضر اجتماعاً أممياً مع مولودها.
كورونا والافتراضية: وفي 2020، ولأول مرة في التاريخ، تحوّلت خطابات الجمعية العامة إلى تسجيلات افتراضية بسبب جائحة كورونا، فغابت حرارة القاعة، وحضر شبح الجائحة.
ما صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة؟
بخلاف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي يمكنه أن يفرض عقوبات أو يأذن باستخدام القوة، فإن الجمعية العامة هي مجرد هيئة للتداول، وينبثق الكثير من قوتها من قدرتها على معالجة القضايا وتقديم التوصيات بشأن المسائل ذات الأهمية الدولية.
وعندما تصدر الجمعية العامة قراراً، تكون مجرد توصية مفادها أنه ينبغي اتخاذ هذا الإجراء.
كما تعين الجمعية العامة الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، الذي يشغل منصبه حالياً أنطونيو غوتيريش، لمدة 5 سنوات، بالإضافة إلى الأعضاء العشرة غير الدائمين في مجلس الأمن.
وكل عام يُنتخب رئيس جديد للجمعية، ويجري تداول المنصب بين ممثلي 5 مناطق جغرافية: إفريقيا، آسيا والمحيط الهادئ، أوروبا الشرقية، أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وأوروبا الغربية وغيرها.
بيربوك اصغر من تولوا المنصب
في خطوة تاريخية، تولَّت وزيرة الخارجية الألمانية السابقة أنالينا بيربوك رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتصبح خامس امرأة تشغل هذا المنصب منذ إنشائه قبل 80 عاما الاولى بينهن كانت الهندية فيجايا بنديت واخرهن الاكوادورية ماريا سبينوزا ، وبعد 75 رئيسا من الرجال، لكن بيربوك البالغة من العمر 44 عاما كانت تعد أيضا من بين أصغر من تولوا المنصب وهي اول امراة من مجموعة الدول الغربية تتولى المنصب
وكانت ثماني دول عربية قد ترأست الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي لبنان، تونس، الجزائر، العراق، المملكة العربية السعودية، البحرين، ليبيا، وقطر

رؤساء الجمعية العامة العرب
تعاقب على رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ إنشائها ثمانية رؤساء من المنطقة العربية من بينهم امرأة واحدة هم:
· اللبناني شارل مالك كان أول عربي يرأس الجمعية العامة في دورتها الثالثة عشرة سنة 1958.
· التونسي المنجي سليم ترأس الدورة السادسة عشرة سنة 1961.
· سنة 1974، تسلم الجزائري عبد العزيز بوتفليقة رئاسة الدورة التاسعة والعشرين. اتخذ بوتفليقة موقفا حازما ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا التي تم تعليق عضويتها خلال فترة رئاسته.
· عصمت كتاني من العراق كان رئيس الدورة السادسة والثلاثين سنة 1981.
· سمير الشهابي من المملكة العربية السعودية ترأس الدورة السادسة والأربعين سنة 1991.
· الشيخة هيا راشد آل خليفة من البحرين تسلمت رئاسة الدورة الحادية والستين سنة 2006. وهي المرأة العربية الوحيدة التي تبوأت هذا المنصب الرفيع طوال تاريخ الهيئة الأممية. وكان شعار دورتها "تحقيق شراكة عالمية من أجل التنمية".
· الليبي علي عبد الرحمن التريكي ترأس الدورة الرابعة والستين سنة 2009. وحملت رئاسة دورته شعار: "وسائل التصدي الفعال للأزمات العالمية: تعزيز تعددية الأطراف والحوار بين الحضارات من أجل السلام والأمن والتنمية على الصعيد الدولي".
· سنة 2011، ترأس القطري ناصر عبد العزيز النصر الدورة السادسة والستين التي حملت شعار: "دور الوساطة في تسوية المنازعات بالوسائل السلمية".
برلمان العالم في مفترق الطرق
ورغم كل هذه الرمزية، يقرّ الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش بأن العالم يعيش حالة "شلل وظيفي". فالجمعية العامة التي حملت آمال الشعوب في نظام عالمي عادل، تجد نفسها اليوم في مواجهة أزمات متراكمة: حرب أوكرانيا، النزاع في الشرق الأوسط، تغيّر المناخ، وانقسام الكبار.
ومع ذلك، لا تزال القاعة الخضراء في نيويورك تحتفظ ببريقها. فمن على منصتها، قد يعلو خطاب عابر يدوّي في التاريخ، أو قرار رمزي يشحذ الضمير العالمي. إنها برلمان العالم، حيث تتحول الكاميرات إلى مرايا تعكس أكثر من كلمات، بل لحظات تكتب في ذاكرة البشرية.